أمضى الدكتور طه حسين ليلة سعيدة، بعد الإشادات به على أول محاضرة له فى الجامعة المصرية يوم 7 ديسمبر 1919 «راجع، ذات يوم 7 ديسمبر 2019».
فى اليوم التالى للمحاضرة «8 ديسمبر، مثل هذا اليوم 1919» كان يتلقى التهانى، وفيما هو على هذا الحال أقبل عليه موظف من قصر السلطان فؤاد يدعوه للقاء رئيس الديوان، حسبما يذكر فى سيرته «الأيام».. سأل حسين: وماذا يريد منى رئيس الديوان، وأنا لم أعرفه، وما أظنه رآنى قط؟.. أجاب الموظف: «لا أدرى، ولكنه أمرنى أن أدعوك، وأصحبك إلى مكتبه».. بعد ساعة كان «حسين» عند رئيس الديوان شكرى باشا، ويسجل انطباعاته عنه: «سمح النفس، عذب الحديث، خفيف الظل، له مشاركة فى الأدب العربى، ولكن فى الذى كان الناس يحبونه فى القرن الماضى، فهو كان يتحدث عن الجناس والطباق، وحس الفكاهة، وبراعة التورية، ويروى لكل هذا أمثلة من الشعر المتأخر».
طال مجلس «حسين» عند رئيس الديوان، حتى أقبل بعض الزائرين، فاستأذن فى الانصراف، فأذن له الرئيس وهمس فى أذنه: مولانا السلطان فؤاد» يجب أن يراك ..يعترف «حسين» بأنه لم يعرف كيف يقول، وانصرف، ولم يمر المساء حتى عاد إليه موظف القصر، يحمل إليه كتابا من كبير الأمناء بأن مقابلة السلطان «فؤاد» التى التمس التشرف بها، تحدد لها الساعة الحادية عشرة صباح الغد.. استوقف حسين كلمة «التمس التشرف بها»، فقال لموظف القصر: «لكنى لم ألتمس شيئا».. رد الموظف: «لا تقل هذا، فمراسم التشرف بمقابلة مولانا تقتضى دائما أن تطلب المقابلة».. يضيف: «سكت الموظف قليلا ثم قال: هل عندك سترة الردنجوت؟ رد: نعم.. قال الموظف: ماشاء الله، كنت أريد أن أعيرك سترتى.. رد: اتخذت هذه السترة حين كنت أتهيأ للزواج».
فى تمام الساعة العاشرة، صحب موظف القصر طه حسين، وسلمه إلى أحد الأمناء الذى أخذ يحدثه حتى حان موعد اللقاء، فصحبه إلى مكتب السلطان.. يتذكر حسين، أن السلطان خف للقائه كأحسن ما يكون اللقاء، ثم أجلسه غير بعيد من المائدة التى كان يجلس إليها، وتلطف له فى الحديث وشمله بعطف كثير وسأله: ماذا درس فى فرنسا؟وماذا نال من الدرجات الجامعية؟.. أنبأه «حسين» بما درس وما نال من الدرجات فأظهر السلطان الرضا، وأثنى ثناء حسنا لأنه درس اللغتين القديمتين، ثم قال السلطان مترفقا: «تعلم أنى كنت رئيس الجامعة حين كنت أنت طالبا فيها (تم اختيار الأمير فؤاد رئيسا لأول مجلس إدارة للجامعة يوم 24 مايو 1908)..يؤكد «حسين» أنه أطرق ولم يجب، فقال السلطان: «ذكرتك بذلك لأدعوك أن تلجأ إلى كلما ضقت بشىء أو احتجت إلى عون»..شكره «حسين»، ودق السلطان الجرس ووقف، وأقبل أمين القصر فصحبه إلى خارج الغرفة وأسلمه إلى موظف القصر ليرده إلى داره.
يعترف «حسين» بأنه كان مضطربا قبل اللقاء، بسبب قصة حدثت وهو طالب فى الجامعة بينه وبين السلطان وقت أن كان رئيسها وهو «أمير»..يتذكر: «انعقد فى مصر مؤتمر للمكفوفين، واهتم له سكرتير الجامعة أحمد زكى بك، فألقى فيه حديثا، وقدم إليه كتابا عربيا قديما ينبئ بأن العرب سبقوا إلى اختراع الكتابة البارزة».. يضيف حسين، أنه فى ذات مساء أثناء المؤتمر كان يسعى إلى غرفة الدرس»، فإذا برجل يأخذ بمجامع جبته وقفطانه، ويقول له فى لغة ملتوية: «تعرف أن فى مصر الآن مؤتمرا منعقدا يبحث فى شؤون العميان».
رد حسين فى عنف: وما أنا وذاك؟.. رد الرجل: تلقى فيه خطبة.. رد حسين: لن ألقى شيئا.. فخلاه الرجل ومضى وهو يقول: «مش فاهم، مش فاهم».. يتذكر «حسين»، أنه لم يكد يبلغ غرفة الدرس حتى أحاط به ثلاثة أو أربعة من أعضاء مجلس إدارة الجامعة، يسألونه: أتعرف من حدثك؟..رد: «لا أعرفه ولا يعنينى أن أعرفه».. وضع أحد الذين كانوا يحدثونه يده على كتفه وقال: «إنه أفندينا الأمير فؤاد رئيس الجامعة، فلا أقل من أن تجيبه فى أدب حين يتحدث إليك»..هز «حسين» رأسه ولم يقل شيئا، فتفرق عنه الذين يتحدثون معه، وقال أحدهم: «دعوه فإنه شيخ».. يعترف حسين، أنه حين تذكر هذه القصة وهو فى طريقه إلى السلطان اضطرب، وحدث نفسه بأن السلطان يريد أن يُذكره بها، لولا أن السلطان رده إلى الهدوء بما مضى فيه من حديثه.
لم يمض وقت طويل على مقابلة طه حسين والسلطان الأولى، حتى جاءت مقابلة ثانية، بعد أن قدم «حسين استقالته» لرفض الجامعة تحمل نفقات رفيق يقرأ له، ويصطحبه فى مشاويره، واستدعاه سكرتير الجامعة، وأبلغه: «المجلس مزمع أن يقبل استقالتك، ويطالبك بأن ترد للجامعة ما أنفقته عليك أثناء إقامتك فى فرنسا».. ضاق حسين، وشكا لزوجته فنصحته بالعدول عن الاستقالة.. يؤكد، أنه لم يعرف كيف ارتفع أمر هذه الخصومة إلى السلطان الذى استدعاه لمقابلته، وأحسن استقباله وتحدث إليه فأطال، ثم قال له فجأة: «بلغنى نبأ استقالتك من الجامعة، وأحسنت بالعدول عنها، ولابد من صبر طويل، واحتمال كثير من الجهد، فبين هؤلاء الناس، وبين حسن الذوق وقت مازال طويلا، ولكن أذكر دائما ما قلته لك حين لقيتك فى المرة الأولى»..يؤكد «حسين» أنه من هذا اليوم شعر أن عليه دينا للسلطان يجب أن يؤديه، حتى أصدر أول كتاب بعد عودته من أوربا: «صحف مختارة من الشعر التمثيلى اليونانى» فأهداه إليه.