بدأ الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى كتابة مقاله الشهير «بصراحة» بجريدة الأهرام 1957، بعد أن تولى رئاستها فى أغسطس 1957، وانتظم فيه كل يوم جمعة حتى قرر الرئيس السادات إقالته يوم 2 فبراير 1974.
ظل مقال «بصراحة» الأسبوعى هو الأشهر فى الصحافة العربية، والأكثر جماهيرية فى مصر، وكل المنطقة العربية، وفى نفس الوقت كان يحظى باهتمامات عالمية، لقرب هيكل من الرئيس عبد الناصر طوال فترة حكمه التى انتهت بوفاته فى 28 سبتمبر 1970، ثم السادات فى سنوات حكمه الأولى، وتميز المقال بغزارة المعلومات وعمق فى التحليل السياسى، وتقديم كل ذلك بأسلوب صحفى شديد الجاذبية.. وفى يوم 1 فبراير «مثل هذا اليوم 1974» كتب «هيكل» مقاله «الظلال والبريق»، وكان الأخير فى الكتابة الأسبوعية المنتظمة لمقال «بصراحة» بجريدة الأهرام، حيث أصدر السادات قرار إقالته فى اليوم التالى «2 فبراير»..فهل كانت هذه المقالة سببا مباشرا لإقالة الرئيس للأستاذ.
يرى الكاتب الصحفى محمد حماد فى كتابه «الرئيس والأستاذ – دراما العلاقة بين الكاتب والسلطة»، أن الخلاف بينهما «السادات وهيكل» كان حول الدور الذى تلعبه الولايات المتحدة الأمريكية مع الوضع الناشئ بعد حرب أكتوبر فى منطقة الشرق الأوسط من ناحية، وطريقة وأسلوب التعامل مع هذه السياسة التى صنعها كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية، وخطط لها من ناحية أخرى، هو القشة التى قصمت ظهر بعير العلاقة بين هيكل والسادات.. وكان آخر مقال منشور فى «الأهرام» بتوقيع هيكل مقالته «الظلال والبريق»، تحدث فيه هيكل عن «الظلال» التى تسقط على الرئيس الأمريكى نيكسون، و«البريق» الذى يتوهج حول كيسنجر، وانتهى فيه إلى القول بأن الظلال والبريق معا لا يكفيان لتغيير سياسة الولايات المتحدة المنحازة تاريخيا وواقعيا للكيان الصهيونى».. يضيف «حماد»: «كان للسادات رأى آخر، يتلخص فى مقولته الشهيرة بأن أمريكا تمسك بنسبة مائة فى المائة من أوراق اللعبة.. ووضع خطته على أساس جديد، أشار إليه كيسنجر حين قال، إنه فوجئ بالسادات يقفز ليجلس على «حجره»، فى أول محادثات مباشرة اقتصرت عليهما وحدهما فى القاهرة عقب حرب أكتوبر 1973، وأحس «هيكل» أنه وصل إلى نقطة النهاية عند مفترق الطريق بينه وبين السادات، وأحس السادات أن هيكل سوف يكون عبئا ثقيلا على توجهاته الجديدة، وكان كيسنجر يلعب بينهما لعبة إذكاء نار الخصومة، والافتراق.. وكانت مقالة «الظلال والبريق» هى نهاية هذا المفترق الإجبارى».
اللافت أن إعادة قراءة «الظلال والبريق» بعد كل هذه السنوات من نشره «1 فبراير 1974» يبدو وكأنه نبؤة لكارثة وضع كل أوراق اللعبة بيد أمريكا.. قال هيكل فى مقاله: «وسط الصخب العالى، وسحب الدخان الكثيف، مما تثيره الولايات المتحدة فى منطقة الشرق الأوسط الآن يحق لنا أن نتساءل: هل يمكن أن نكون أمام تغيير كبير لحق بالسياسة الأمريكية فى المنطقة، ولم نتنبه له بالرصد والتحليل الملائم وبالسرعة الواجبة؟.. يقدم هيكل الإجابة على هذا السؤال، مشيرا إلى أن «السياسة الخارجية لأية قوة دولية، خصوصا إذا كانت إحدى القوتين العظميين، هى تعبير عن مصالح دائمة، واستجابة أو استغلال لظروف أو ملابسات متغيرة».. يشرح هيكل هذه النقطة، حتى يصل إلى قوله: «قلت ومازلت أقول إن الولايات المتحدة لها فى الشرق الأوسط مجموعة من الأهداف الدائمة تتلخص فى: 1 - حماية إسرائيل. 2 - ضمان الحصول على البترول العربى واستمرار تدفقه بسعر معقول. 3 - إخراج الاتحاد السوفيتى من المنطقة العربية. 4 - استعادة النفوذ الأمريكى فى المنطقة وجعله النفوذ الأوحد فيها إذا أمكن. 5 - الحيلولة دون قيام قوة عربية كبرى فى هذه المنطقة، بما فى ذلك حجب الدور المصرى الطبيعى واعتراض طريق قيام الوحدة العربية بكل الوسائل».
قدم «هيكل» أدلته العملية على تطبيق أمريكا لهذه الأهداف خلال حرب أكتوبر 1973 بتقديمها كافة أنواع العون لإسرائيل، ثم سأل: «ماالذى تغير مما يثير هذا الصخب العالى وسحب الدخان الكثيف فى أجواء الشرق الأوسط؟».. ويجيب: «الجديد الذى نعثر عليه الآن هو ذلك العنصر الطارئ الذى يرجع إلى ظروف متنوعة بينها اختلاف الشخصيات المشرفة على التوجيه وتباين أمزجتها.. نحن هنا أمام رئيس أمريكى تلفه ظلال الشبهات والاتهامات، ويتصور أنه لو وصل إلى شىء فى أزمة الشرق الأوسط لاستطاع تغطية فضيحته.. ثم نحن هنا أمام وزير للخارجية الأمريكية يحيطه بريق النجاح بوهج النجوم، وهو يريد تعزيز نجاحه لأسباب عديدة.. والسؤال الذى يتبقى لدينا هو: هل تكفى الظلال التى تلف نيكسون أو هل يكفى البريق الذى يتوهج من حول كيسنجر لإحداث تغيير كبير يلحق بالسياسة الأمريكية فى المنطقة؟»..يجيب : أقول بأمانة: لا أظن أنها تستطيع.. باختصار لا الظلال «نيكسون» كافية ولا البريق «كيسنجر» كافٍ.