فى الوقت الذى تحاول فيه روسيا اختراق العمق الاستراتيجى للولايات المتحدة عبر توطيد نفوذها فى دول أمريكا اللاتينية المناوئة لواشنطن، وهو ما بدا واضحا فى الدعم الذى تقدمه موسكو لنظام الرئيس الفنزويلى نيكولاس مادورو، فى أعقاب محاولة الإنقلاب التى يقدودها رئيس البرلمان خوان جوايدو، بدعم أمريكى، تسعى الإدارة الأمريكية نحو تهديد الأمن الروسى عبر زرع بذور الإرهاب فى المحيط الجغرافى لموسكو، وهو ما بدا واضحا فى التحذيرات التى أطلقها عددا من المسئولين الروس من محاولات نقل مقاتلى داعش إلى الحدود بين طاجيكستان وأفغانستان عبر طائرات الناتو.
ويمثل وجود داعش فى مناطق قريبة من روسيا سلاحا مزدوجا، حيث أنه يمثل تهديدا أمنيا مباشرا لموسكو عبر احتمالات قيام عناصر التنظيم الإرهابى بعمليات فى الأراضى الروسية من جانب، أو غير مباشر، فى ظل احتمالات نشوب نزاعات مسلحة جديدة على الأراضى الأفغانية فى المرحلة المقبلة من شأنها زعزعة الأوضاع، خاصة مع اقتراب الانسحاب الأمريكى من كابول على إثر الاتفاق الذى يتم التفاوض عليه حاليا بين الولايات المتحدة وحركة طالبان، لإنهاء الحرب الأمريكية هناك، والتى دامت لأكثر من 17 عاما، وهو ما قد يترتب عليه زيادة كبيرة فى تدفق اللاجئين من أفغانستان إلى الأراضى الروسية وبالتالى تسلل عناصر إرهابية وإجرامية بينهم، يمكنهم القيام بعمليات إرهابية فى المستقبل، بالإضافة إلى كونه يمثل تهديدا اقتصاديا دامغا من جانب أخر.
مهادنة الإرهاب.. كيف تحاول واشنطن تكرار سيناريو الحرب الباردة؟
ولعل التورط الأمريكى المحتمل فى توريد مقاتلى داعش إلى أفغانستان يمثل امتدادا للسياسة الأمريكية التى قامت على دعم الميليشيات المتطرفة هناك لحصار موسكو، خلال حقبة الاتحاد السوفيتى، حيث كانت تلك الميليشيات، والتى أصبحت فيما بعد نواة للتنظيمات الإرهابية الرائدة فى العالم، وعلى رأسها تنظيم القاعدة، هى الوقود للحرب الأمريكية على القوات السوفيتية آنذاك، حيث ساهمت بدور رئيسى فى إضعاف القوة العسكرية لموسكو، وبالتالى فتحت الباب أمام انتهاء الحرب الباردة، ونهاية عصر الثنائية القطبية لتهيمن الولايات المتحدة على العالم باعتبارها القوى العالمية الوحيدة منذ ذلك الحين.
الجيش السوفيتى بأفغانستان
ويثير التزامن بين انتقال مقاتلى داعش إلى الحدود الأفغانية من جانب، واقتراب الانسحاب العسكرى الأمريكى من كلا من أفغانستان وسوريا من جانب أخر، العديد من التساؤلات حول ما إذا كانت الخطوات الأمريكية الأخيرة كانت بمثابة محاولة لمهادنة التنظيمات المتطرفة تمهيدا لاستخدامها فيما بعد لتحقيق الأهداف الأمريكية فيما يتعلق بصراعها مع موسكو فى المرحلة المقبلة، خاصة وأن خروج القوات الأمريكية من تلك المناطق فى الوقت الراهن ربما يترك فراغا أمنيا يسمح للجماعات الإرهابية لإحكام قبضتها على الأمور فى تلك الدول، وبالتالى يمكن استخدامها مجددا من قبل واشنطن لتهديد أمن موسكو، على غرار ما شهدته الحرب الباردة.
أبعاد أخرى.. ترامب يحاول إجبار روسيا على العودة إلى أفغانستان
يبدو أن انغماس روسيا فى المستنقع الأفغانى لم يكن بعيدا عن أجندة الرئيس ترامب فى الآونة الأخيرة، حيث أكد فى تصريح سابق له أن الاتحاد السوفيتى كان على حق عندما قام بغزو أفغانستان فى السبعينات فى القرن الماضى، معللا ذلك بأن الإرهابيين كانوا متواجدين على الأراضى الأفغانية وبالتالى كانوا يمثلون تهديدا دامغا لأمن موسكو، وهو التصريح الذى أثار جدلا واسعا، ليس فقط فى ردود الأفعال الدولية، وإنما كذلك فى الداخل الأمريكى، حيث اعتبر قطاع كبير من الساسة الأمريكيين أن مثل هذا التصريح يمثل انتصارا للخصم التاريخى لواشنطن.
ترامب وبوتين
إلا أن تصريح ترامب، على ما يبدو، كان يحمل أبعادا أخرى، تتمثل فى التمهيد لما هو قادم فى المرحلة المقبلة، خاصة بعد الانسحاب الأمريكى من أفغانستان، حيث يسعى الرئيس الأمريكى إلى إجبار موسكو على التواجد فى الأراضى الأفغانية، ربما لملء الفراغ الأمنى الناجم عن خروج القوات الأمريكية من هناك، والذى يمثل تهديدا صريحا لأمن موسكو، خاصة إذا ما أدى ذلك إلى حالة من الانفلات الأمنى نتيجة الصراع المحتمل على السلطة بين المعارضة والحكومة القائمة، وبالتالى الدخول فى صدامات الميليشيات المسلحة، وهو ما يساعد على انهاك القوة العسكرية الروسية من جديد.
ويعد نقل مقاتلى داعش إلى المنطقة بمثابة محاولة لوضع المزيد من الضغوط على كاهل موسكو، عبر زرع المزيد من التهديدات فى محيطها الجغرافى مما يجبرها على التدخل من جديد فى أفغانستان، فى ظل الإدراك الروسى بخطورة وجود التنظيم الإرهابى بالقرب من أراضيه، خاصة وأنه يرغب فى الانتقام من روسيا بسبب دورها الكبير فى دحض ميليشياته فى سوريا، وتقويض حلم الدولة التى سعى لبنائها هناك، بعد سنوات من التقاعس الأمريكى فى عهد الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما.
بعد فشلها فى الشرق الأوسط.. أمريكا تلجأ لـ"إعادة تدوير" داعش لمضايقة خصومها
ولعل التقاعس الأمريكى فى القضاء على التنظيم المتطرف، والذى سيطر على مساحات واسعة من الأراضى فى كلا من سوريا والعراق، دليلا دامغا على رؤية الإدارة الأمريكية حول إمكانية استخدام التنظيم المتطرف لتحقيق أهدافها فى الشرق الأوسط، وبالتالى استعداد الولايات المتحدة على عقد الصفقات مع الميليشيات الإرهابية، وهو ما يمثل جزءا رئيسيا من سياسة إدارة أوباما، والتى قامت فى الأساس على مهادنة الإرهاب، وتمكينه من السلطة فى دول المنطقة مقابل تحقيق أجندتها التى قامت على إعادة تقسيم دول المنطقة.
مقاتلى داعش
إلا أن فشل المخطط الأمريكى فى الشرق الأوسط، ربما يفتح الباب أمام الإدارة الحالية لما يمكننا تسميته بـ"إعادة تدوير" التنظيمات المتطرفة لاستخدامها فى مناطق أخرى من العالم لمضايقة خصومها، وعلى رأسهم روسيا، فى المرحلة المقبلة، من تقويض نفوذهم أو على الأقل احتواء طموحاتها التى تهدف إلى مزاحمة النفوذ الأمريكى، خاصة بعد امتدادها إلى مناطق تمثل عمقا استراتيجيا للولايات المتحدة فى أمريكا اللاتينية، وهو ما يبدو واضحا فى الأزمة الفنزويلية الحالية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة