كل منا يظن أنه يعرف نفسه جيدًا، وأنه يستطيع أن يحكم على سلوكياته وبيئته، وأنه يتوقع ردود فعله مقدمًا، ولكن صدقونى يا سادة كل هذا هُراء، فأنت لا يمكن أن تعرف بيئتك إلا من خلال تعاملاتك، فالبيئة هى المُحيط الذى نشأ الإنسان فيه وترعرع، كما أنها أيضًا المُحيط الذى اكتسبه بمرور الوقت، لذا نجد الكثيرين يُغيرون جلودهم مع الزمن، ولكن هل سينجحون أم ستنتصر البيئة المنشأية.
دعونى أحكى لكم أحد المواقف التى تعرض لها الفنان العالمى عمر الشريف، أثناء تصويره لفيلم "الأراجوز"، عام 1989م، وهذا الموقف حكاه مخرج الفيلم هانى لاشين، حيث إنه طلب من عمر الشريف فى أحد المشاهد التى يظهر فيها فى أحد المطاعم، والمفترض أنه يتناول الطعام مع ابنه فى الفيلم، والذى جسد دوره الفنان هشام سليم، فهو الشاب المتعلم الطموح، فى حين أن والده يعمل أراجوزًا، يُضحك الناس فى الشوارع، ويتكسب قوته، ويُجسد شخصيته الفنان عمر الشريف، وكان يرتدى جلبابا رثّا وممزقا، فطلب منه المخرج أن يتحدث أثناء مضغه للطعام؛ لأن هذا هو سلوك أبناء هذه الطبقة، ولكن عمر الشريف فشل فى ذلك، حيث كان يُغلق فمه أثناء مضغ الطعام، فيتم إعادة تصوير المشهد، حتى استغرق التصوير يومًا بأكمله، دون أن ينجح الفنان العالمى فى إتيان هذا السلوك؛ مما اضطر المخرج إلى تصويره على ذلك الوضع.
والواقع أن الفنان العالمى استطاع أن يجسد كل الشخصيات، ولكن التفاصيل الصغيرة حكمت سلوكه، فلم يستطع أن يتمرد على طبيعته الأرستقراطية، والسؤال هل كان عمر الشريف يظن أنه سيفشل فى تمثيل هذا المشهد البسيط رغم عالميته؟ بالطبع لا!، ولكن الحياة أثبتت له أن طبيعته البيئية لا بد أن تنتصر على سلوكه.
وأنا شخصيًا تعرضت لموقف فى حياتى، استغربت فيه نفسى بشدة، فقد حدث حوار جدلى بينى وبين زوجة أحد الزملاء، وكنت أعلم أنها امرأة بسيطة، ولكننى ظننت أنها رغم بساطتها فهى قطعًا راقية، لاسيما وأن الرقى ليس مرتبطًا بالأرستقراطية، ولكننى فؤجئت بها تتحدث بأسلوب لا يتماشى مُطلقًا مع طبيعة مهنة زوجها، مما أبكم لسانى عند الرد، ليس لضعف موقفى أو شخصيتى، ولكن لأننى اكتشفت أننى رغم قُدرتى الفائقة على الكلام والتعبير، إلا أننى ستغلب على طبيعتى البيئية أثناء حوارى مع أصحاب البيئات الأخرى، لدرجة أننى كنت طيلة الحوار أناديها بلقب "يا هانم"، واضطررت لاستعمال بعض مصطلحات اللغة الإنجليزية لإنهاء الحوار، ليقينى أنها لا تُجيدها، وإن كان هذا لا يُقللها فى نظرى؛ لأن المناظر ليس فى الثقافة اللغوية، ولكنه فى الطبيعة السلوكية، وهى صدمتنى بأسلوبها الذى أعجزنى عن الرد، وهنا أيقنت أن ثقتى فى براعتى الحوارية لن تُجدى معى، إذا تعرضت للتعامل مع من هم أقل منى فى البيئة السلوكية، وكانت هذه مفاجأة لى.
وأيضًا رد فعل زوجها أكد لى أن البيئة لا تفرض نفسها فقط على السلوك الحوارى، وإنما أيضًا على السلوك الفعلى، فهو بدلاً من أن يُقدم لى الاعتذار الذى يليق بوضعى، ومكانتى الاجتماعية، ويُجبرها على الاعتذار، انحاز لها، وأنكر أن تكون فعلت ذلك، رغم معرفته الوثيقة بأننى لا أجيد فن تلفيق الأكاذيب، وهنا أدركت أن هذا الرجل بالرغم من أنه لم يتحدث من قبل أمامى بصورة غير لائقة، إلا أنه لا إراديًا دافع عن السلوك الشاذ لزوجته؛ مما يدل على شعوره بالانتماء لهذه السلوكيات البيئية، رغم أنه كان يظن أنه يضع نفسه فى قالب خاص، فأحيانًا يتزوج الإنسان من شخص لا يُشبهه، ويضطر لاستكمال المسيرة معه؛ لأسباب اجتماعية، ولكنه لا يتوانى عن شجب سلوكياته، ورفض تبريرها، وهنا تجد الآخرين يحترمونه، ويدعون له بالمعونة والصبر؛ لأنهم يجدون أنه من بيئة مُخالفة لشريك حياته.
وهنا تعلمت درسًا جديدًا وهو، أنك لا تحكم على بيئة من أمامك من خلال حواره وسلوكه الشخصى فقط، وإنما أيضًا من مواقفه ومُيوله حيال الآخرين، فكل إنسان يُدافع عن البيئة والسلوك اللذين ينتمى إليهما، وهذا يحدث دون وعى، أو إرادة منه، فأنت تنجذب لا إراديًا لما يتماثل معك، فضع نفسك فى قالبك الحقيقى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة