فى الوقت الذى جاءت فيه الهجمات العسكرية التى شنتها القوات الجوية الهندية على باكستان، اليوم الثلاثاء، على خلفية العملية الانتحارية التى شهدها إقليم كشمير المتنازع عليه بين الدولتين، والاتهامات التى أطلقتها حكومة رئيس الوزراء الهندى نياندرا مودى لنظيرتها الباكستانية بالتورط فى الهجوم، يبدو أن تسطر صفحة جديدة من التوتر فى منطقة شبه القارة الهندية، ليس فقط على أسس ثنائية تقتصر على العلاقة المباشرة بين نيودلهى وإسلام آباد، وإنما تمتد فى نطاقها إلى واقع دولى جديد تفرضه العديد من المستجدات على المنطقة فى المرحلة الراهنة.
ربما يبدو صعبا، على المتابع للتطورات التى شهدتها المنطقة فى السنوات الأخيرة، خاصة منذ صعود الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، منذ أكثر من عامين، الفصل بين الهجوم العسكرى الهندى الأخير، من ناحية، والكثير من التغييرات الكبيرة التى يشهدها العالم، فى ظل الصراع المتنامى بين الولايات المتحدة والصين، والتوتر الكبير فى العلاقة بين واشنطن وإسلام آباد فى السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى التوجهات الأمريكية الجديدة القائمة على فكرة عدم التورط المباشر فى النزاعات العسكرية فى مناطق مختلفة من العالم، وهو الأمر الذى يضع حلفاء واشنطن تحت تهديد مباشر من قبل خصومها.
التحرك العسكرى المباشر.. الانسحاب الأمريكى يمثل تهديدا لحلفاء واشنطن
وبالتالى يصبح التحرك العسكرى المباشر من قبل القوى الإقليمية المتصارعة فى تلك المنطقة، وربما مناطق أخرى من العالم، للدفاع عن نفسها أمام ما تراه من تهديدات مباشرة لأمنها القومى بمثابة أحد الخيارات القريبة من صانعى القرار، وهو ما بدا واضحا فى الهجوم الأخير للهند على الأراضى الباكستانية، الذى ربما يمثل جرس إنذار حول احتمالات تفاقم النزاعات العسكرية، فى ظل غياب ضمانات حقيقية على الأرض من شأنها تحقيق قدر من الأمن والاستقرار الدولى.
ولعل التوجه الأمريكى الصريح نحو التراجع عن سياسة الانتشار العسكرى، التى تبنتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، السبب الرئيسى وراء تعزيز المخاوف لدى حلفاء واشنطن، جراء التهديدات المحيطة بهم، وهو الأمر الذى ينطبق بصورة كبيرة على الحالة الهندية، خاصة إذا ما وضعنا فى الاعتبار نية واشنطن الانسحاب من أفغانستان، على إثر اتفاقية السلام المزمع إبرامها مع حركة طالبان الأفغانية، وهو الأمر الذى تعتبره نيودلهى تهديدا مباشرا لآمنها، مع تزايد احتمالات سيطرة الحركة الأفغانية على السلطة فى كابول فى المرحلة المقبلة، وبالتالى التحالف مع خصمها الباكستانى، لتصبح الهند بمثابة الواحة المحاطة بأعدائها.
مباركة أمريكية.. واشنطن تسعى لفرض رؤيتها قبل الانسحاب
وهنا تلوح فى الأفق أثارا واضحة لمباركة أمريكية، سواء كانت صريحة أو ضمنية، لتصعيد التوتر بين الجارتين الآسيويتين المتصارعتين، خاصة وأن إدارة ترامب ربما تحاول فرض الهند كقوى مهيمنة فى المنطقة، ربما لتحقيق قدرا من التوازن مع الصعود الصينى الكبير سواء على المستوى التجارى أو الاقتصادى، خاصة وأن نيودلهى بالفعل تمثل قلقا بالغا لبكين فى المرحلة الراهنة، فى ضوء توسعها العسكرى، وقدراتها النووية، و سعيها إلى الحصول على صواريخ باليستية، وكذلك النمو الاقتصادى الكبير الذى تحققه فى المرحلة الراهنة، بالإضافة إلى التقارب الكبير بين رئيس الوزراء الهندى ونياندرا مودى، والرئيس الأمريكى دونالد ترامب، والذى بدا واضحا فى تبادل الزيارات بين الجانبين منذ صعود ترامب إلى البيت الأبيض.
ترامب اتجه للتقارب مع الهند على حساب باكستان
المباركة الأمريكية للهجوم الهندى، جاءت واضحة فى تصريحات أدلى بها قبل أيام فى المكتب البيضاوى فى أعقاب اجتماع عقده مع الوفد التجارى الصينى الذى زار واشنطن مؤخرا، حيث أكد أنه يتفهم رغبة الهند فى القياد برد قوى بعد مقتل 50 شخص من مواطنيها، وهو التصريح الذى يعد بمثابة ضوء أخضر من قبل البيت الأبيض للحكومة الهندية للتحرك العسكرى.
توتر ملحوظ .. ترامب أعلن العداء تجاه إسلام آباد
ويتزامن التقارب الأمريكى الهندى مع توتر ملحوظ فى العلاقة بين واشنطن وإسلام آباد، فى ظل اتهامات أمريكية صريحة لباكستان بالتورط فى دعم الإرهاب وانتهاك الحريات الدينية، بينما يبقى التقارب الكبير بين الحكومة الباكستانية من جانب والصين وروسيا من جانب آخر، السبب الرئيسى وراء انقلاب ترامب على تحالف بلاده التاريخى مع باكستان، وهو ما يمثل حلقة من سلسلة خطوات اتخذتها الإدارة الأمريكية بهدف إعادة تشكيل تحالفاتها فى العديد من مناطق العالم، خاصة فى آسيا، بهدف مناطحة النفوذ الصينى المتنامى.
رئيس وزراء باكستان عمران خان
التوتر فى العلاقات الأمريكية الباكستانية ربما ليس وليد اللحظة، حيث شهد التحالف بين واشنطن وإسلام آباد العديد من التوترات منذ بداية عهد ترامب، حيث دأب على انتقاد أسلافه بسبب المساعدات السخية التى قدموها لباكستان، والتى وصل حجمها إلى أكثر من 33 مليار دولار، بينما لم تقدم الحكومة الباكستانية فى المقابل سوى الأكاذيب، بينما أوقفت واشنطن مساعدات عسكرية وأمنية للقوات الباكستانية تقدر بملايين الدولارات، بالإضافة إلى وضعها فى قائمة المراقبة الدولية، فى انعكاس صريح على تغير الرؤية الأمريكية للحليف التاريخى الهام لواشنطن واتجاهها نحو اتخاذ الجانب الأخر.