- شكاوى من غياب المتخصصين بالوحدات الصحية.. وأمهات يطالبن بحملات إرشاد صحى
كانت الأمور تسير على ما يرام، خلال حملها الأول والثانى اتبعت الإرشادات الصحية اللازمة، وواظبت على تناول الفيتامينات الموصى بها، حتى رُزقت بطفلين طبيعيين، أما فى تجربتها الثالثة فكان جنينها أقل حظا من شقيقيه، فلم تهتم الأم بالقواعد الغذائية السليمة، ولم تنشغل بإمداده بالعناصر المقوية التى يحتاجها جسده فى تلك المرحلة تحديدا، فكانت النتيجة هى ولادة طفل أقل من الحجم والوزن المعتاد.
«عُلا» سيدة فى الثلاثينيات من عمرها تنتمى لمحافظة القليوبية التى تشهد أعلى نسبة إصابة بالتقزم على مستوى الجمهورية بين الأطفال الأقل من خمس سنوات بنسبة تصل إلى %65، وفقا لما ورد فى تقرير «تنمية الطفولة المبكرة فى مصر - مجموعة البنك الدولى»، وأكد عليه اللواء محمود عشماوى، محافظ القليوبية السابق، خلال تصريحات صحفية سابقة فى يونيو 2018.
تتشابه تفاصيل قصة أم الثلاث أطفال مع غيرها من حكايات سيدات قرى تلك المحافظة فى البرادعة، سندبيس، المنيرة، بهادة، شبرا شهاب، كفر الشرفا، العامرية تصفا، الشقر، وهى القرى التى تشهد أعلى نسبة إصابة بمرض التقزم بين الأطفال، وفقا لما ذكره كرم محمود، المدير التنفيذى للجمعية المصرية للتنمية البشرية بالقناطر الخيرية.
تقول «علا»: اكتفيت طوال أشهر الحمل بالمتابعة والذهاب للطبيب ثلاث مرات فقط، نظرا لتدنى الحالة المادية، فكان من الصعب المواظبة والتردد على الطبيب أكثر من ذلك، إضافة إلى أننى لم أهتم بتناول الفيتامينات الخاصة بفترة الحمل من كالسيوم وحديد.
وتضيف: اقتصر ذهابى للوحدة الصحية على متابعة الوزن والطول لطفلى الثالث الذى يبلغ من العمر خمس سنوات الآن، ومنذ عامه الأول علمت أن هناك مشكلة والأطباء ذكروا لى أنه يعانى من مرض التقزم، فى البداية كنا نتسلم وجبات غذائية من الوحدات الصحية، خاصة بالأطفال الذين يعانون من ضعف شديد، ولكن الآن توقف الأمر.
الطفل الذى تبدو هيئته الخارجية أقل من عمره بكثير، طالبت والدته بضرورة تنظيم حملات توعية وإرشاد للأمهات الحوامل داخل تلك القرى، وكذلك تدشين فصول التغذية السليمة لتوعيتهن بكيفية تشكيل وجبات متكاملة العناصر الغذائية لأطفالهن.
وفقا لتعريف منظمة الصحة العالمية، فالتقزم عند الأطفال الذى أطلقت الدكتورة هالة زايد، وزيرة الصحة، مبادرة للكشف عن التقزم والسمنة والأنيميا عند الأطفال، بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم بداية من سن 6 سنوات وحتى 12 سنة، عبارة عن حالة مرضية تصيب الجنين، ينتج عنها إنجاب أطفال تعانى من قصر القامة وضعف الوزن عن الحد الطبيعى، وهناك أسباب عديدة تقف وراء هذه الحالة، أهمها وجود طفرة فى أحد جينات الأبوين، أو إصابة الأم الحامل ببعض الأمراض، مثل الحصبة وتسمم الحمل، وكذلك سوء التغذية، ويصنف التقزم إلى نوعين، وهما «القزامة المتناسقة» عندما يكون حجم الجسم أصغر من الطبيعى، ولكن هناك تناسقا بين أجزائه المختلفة، و«قزامة غير متناسقة»، وفيها تكون بعض أجزاء الجسد أصغر من المعتاد، والبعض الآخر متوسط الحجم أو طبيعى، ونادرا ما تسبب حالة التقزم تأخراً عقلياً أو مشاكل فى الحركة أو تشوهات خلقية.
الدكتورة نجوى عبدالمجيد، رئيس قسم الوراثة البشرية وبحوث الأطفال بالمركز القومى للبحوث، تقول: «مُـنْـحنى نمو الطفل هو المعيار الأساسى لمعرفة إن كان الأخير يعانى من التقزم، بمعنى أن يكون وزنه وطوله أقل من الطبيعى أم لا، وبشكل عام هذه الحالة تكون ناتجة عن سوء التغذية الأم أثناء فترة الحمل وللطفل خلال الثلاث سنوات الأولى من عمره»، وأضافت: «عدد كبير من الأطفال يكون لديهم عزوف تجاه بعض أصناف الطعام، على الرغم من فائدتها فى تكوينهم الجسمانى، مثل السمك على سبيل المثال، ومن الأخطاء الشائعة هى أن الأمهات يستجبن لعمليات الرفض المتكررة للوجبات من قبل الأطفال، بالإضافة لوجود بعض العادات الغذائية غير السليمة التى لا يحرصن على تقويمها لدى أطفالهن. قائلة: «العادات الغذائية الخاطئة تؤثر على نمو الطفل وتسبب فى قصر قامته نتيجة إحداث خلل فى ميزانه الغذائى».
إصابة ابن سمر ذات التسعة والعشرين عاما، بمرض التقزم راجع لتقصيرها أيضا فى تناول عقاقير الحديد والكالسيوم أثناء فترة الحمل بالإضافة للوجبات الغذائية متكاملة العناصر، على حد قولها، تقول الأم ساردة تفاصيل إصابة ابنها: «جاء ابنى إلى الدنيا منذ ثلاثة أعوام أقل من الوزن والطول الطبيعى، اعتمدت وقتها على اللبن الصناعى، ولكن مراحل نموه كانت بطيئة للغاية، أدركت فيما بعد أن هذا ناتج عن تقصيرى خلال فترة الحمل وعدم اهتمامى بتغذيته، فنادرا ما كنت أذهب للطبيب للمتابعة»، مضيفة: «طالما العيل كان فى بطنى بيتحرك بكون مطمنة، ولا أذهب إلا للضرورة فقط إذا لاحظت شيئا غريبا، مثل ألم لأول مرة أو نزول المياه».
ولم يكن محمد هو الطفل الأول فى العائلة الذى يعانى من التقزم، فهذا الطفل الذى يأتى ترتيبه الرابع بين أقرانه سبقه فى المسار نفسه أشقاءه الثلاث أيضا، ورغم ذلك لم تهتم الأم رغم معاناتها مع أطفالها السابقين بتغذية طفلها لتلافى إصابته، تقول الأم التى تعمل فى مجال الفلاحة برفقة زوجها: «حقيقة لم أحب تناول أقراص الحديد وحتى الطعام الطبيعى من خضراوات ولحوم لم أتناوله بانتظام خلال فترة حملى، وحاليا يعيش أطفالى على الفيتامينات».
الوحدات الصحية وغياب المتخصصين
غياب المتخصصين داخل الوحدات الصحية فى كل قرى المحافظة التى بلغت 194 وحدة صحية وفقا للأرقام المعلنة، أحد المشاكل الرئيسية التى ينتج عنها تخلف الأمهات الحوامل عن المتابعة، ومن ثم تقديم الإرشادات والتعليمات الواجب تطبيقها لتلافى إنجاب أطفال يعانون من المرض نفسه.
«أول ما الست بتعرف إنها حامل بتروح للطبيب فى عيادة خاصة، لإن أطباء الوحدة الصحية إما متغيبين أو فى تخصصات بعيدة عن احتياجاتنا أثناء فترة الحمل».. بهذه الكلمات بدأت هويدا حديثها ملخصة مشكلة العديد من سيدات قرى المحافظة فى إيجاد أطباء الوحدات الصحية تخصص مجال نساء وولادة، لتولى مسؤولية المتابعة، مضيفة: «أساس المشكلة أنه لا توجد متابعة طبية جيدة لنا، بالإضافة إلى أن السيدات فى المناطق الريفية يعانون من ضيق الحالة الاقتصادية، وبالتالى لا يواظبون حتى على الذهاب للعيادات الخاصة لارتفاع ثمن الكشف، حيث يصل فى بعض الأحيان إلى 100 جنيه، لذلك تفضل المرأة الحامل البقاء فى المنزل طالما تشعر بحركة الجنين، وكل شىء على ما يرام».
وتضيف: لم أذهب للوحدة الصحية أثناء فترة الحمل سوى للحصول على تطعيمات التيتانوس، فكثيرا ما نجد أطباء من تخصصات عامة وليس نساء وولادة، بالإضافة لتعطل أجهزة السونار بشكل دائم، ولم أدرك ضرورة المتابعة سوى بعد إنجابى لابنتى الأولى ذات الثلاثة عشر عاما تعانى من التقزم، وحرصت على الاستجابة للنصائح والإرشادات المقدمة من قبل قوافل التوعية التى تنظمها جمعية القناطر الخيرية.
وتتابع: «أدركت أن ابنتى الكبرى لديها مشكلة عندما وجدت وزنها وطولها أقل من الطبيعى، فهيئتها الخارجية تنبئ عن أنها طفلة فى الصف الثالث الابتدائى وليس أولى إعدادى، فى البداية كانت الوحدات الصحية تقدم وجبات تغذية للأم الحامل عبارة عن أطباق كشرى، بيض، خضار، أما الآن فتوقف كل هذا».
الدكتور ماجد عثمان، وكيل الإدارة الصحية بالقناطر الخيرية، يعترف بوجود مشكلة حقيقية فى نقص عدد الأطباء داخل الوحدات الصحية قائلا: هناك عجز فى عدد الأطباء الذين يتم تكليفهم لخدمة تلك القرى وللتغلب على ذلك خاطبنا الإدارة المركزية التى ستوفد إلينا عددا لا بأس به مع مطلع شهر مارس المقبل من مختلف التخصصات، نساء وولادة وأطباء أطفال، وسيتم توزيعهم فى مختلف القرى». وأضاف: «منذ أن أعلنت الدكتورة هالة زايد وزيرة الصحة عن المبادرة قامت الإدارة بتنظيم قوافل منذ عشرة أيام لفحص الأطفال وعمل التحاليل اللازمة لهم وتعويضهم بعقاقير الحديد والكالسيوم لمحاصرة «التقزم» ومنع انتشاره».
المجتمع المدنى ومحاصرة التقزم
وسط محاولات مؤسسات الدولة السابقة للسيطرة على المرض، بقى دور المجتمع المدنى ممثلا فى الجمعيات الخيرية لتوعية وتثقيف الأمهات بضرورة المتابعة وتطبيق القواعد والإرشادات الصحية اللازمة، هذا ما أكد عليه كرم محمود، المدير التنفيذى للجمعية المصرية للتنمية البشرية بالقناطر الخيرية، وهى الجمعية التى أخذت على عاتقها منذ عام 2012 مسؤولية مكافحة هذا المرض، والحد من انتشاره بين الأطفال، يقول كرم: «عملنا على هذا الملف بالتعاون مع هيئة إنقاذ الطفولة، وكانت نقطة انطلاقنا عددا من قرى المحافظة، ما يقرب من 8 قرى مثلت النسبة الأعلى لانتشار حالات التقزم بين الأطفال، واعتمدنا فى عملنا على مجموعة من المحاور، أولها توعية الأمهات بخطورة مرض التقزم لدى الأطفال بداية من سن حديثى الولادة وحتى إتمامهم العامين، وهى الفترة الأكثر استجابة فى عمر الطفل لطرق العلاج، بالإضافة إلى أننا قمنا بتدريب عدد لا بأس به من مشرفات الصحة بالتعاون مع الإدارة الصحية بالقناطر الخيرية ومديرية الصحة بالقليوبية، وتم توزيع كل مشرفة على 120 أسرة تقوم بزيارتهم فى بيوتهم وتقديم الدعم اللازم للأمهات وتجرى للأطفال الفحوصات الواجبة، بالإضافة أن الجمعية نظمت الكثير من فصول التغذية السليمة داخل الوحدات الصحية، حيث كان يتم إحضار الأمهات والأطفال لمساعدتهم على تشكيل وجبات غذائية مكتملة العناصر من بروتين وكالسيوم وفيتامينات متنوعة، وكذلك عبر قوافل تجوب القرى لتقديم وجبات غذائية متكاملة للأمهات الحوامل والأطفال فى الأعمار التى سبق الإشارة إليها».
وأضاف: «البرنامج السابق حقق نتائج جيدة وتراجعت نسبة التقزم فى تلك القرى إلى %38، وكانت التوعية التى تتم داخل البيوت من أهم عناصر النجاح، وكذلك القوافل الطبية المتنوعة التى كانت مقسمة لتشمل احتياجات الأم الحامل، والأطفال وقوافل أخرى جميع أفراد الأسرة تقود تلك القوافل مجموعة من الممرضات مزودات بحقائب صحية بها ملصقات للتوعية ومحاليل لعلاج الجفاف وأقراص حديد وكالسيوم، وإذا استدعت الحالة الانتقال للوحدة الصحية ترافقها الممرضة، ويتم توقيع الكشف الطبى عليها وأخذ قياسات الطفل من وزن وطول».
وتابع: هناك اعتقاد ومفهوم سائد بين الأمهات وهو أن الطبيب الخارجى يقدم خدمة أفضل عن نظيره داخل الوحدة الصحية، وبالتالى كان هناك عزوف عن الذهاب للوحدة الصحية، وساعد على ترويج هذا المفهوم هو غياب أطباء الوحدة من الأساس، لذلك كان علينا القضاء على هذا الاعتقاد من خلال تنظيم حلقات التوعية والإرشاد داخل الوحدات الصحية نفسها لإجبار الأمهات والأطفال على والذهاب إليها، ونجحنا تدريجيا فى محاصرة معدلات التقزم، والدليل على ذلك هو كراسات الصحية للمتابعة التى كان يتم توزيعها على الأمهات، ويتم دوريا متابعة منحنى الطول والوزن للطفل دون العامين للتأكد من استجابته للعلاج.
وبخلاف الخطوات السابقة التى تم تحقيقها على أرض الواقع إلا أنه مازال الوضع بحاجة للرعاية والاهتمام، ومتابعة دقيقة لمعدلات نمو الأطفال وتوفير الأطباء المتخصصين داخل الوحدات الصحية، وفقا لما أكد عليه كرم محمود فى نهاية حديثه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة