عفاف عبد المعطى تكتب: ضحايا عائلة يعقوب

السبت، 09 فبراير 2019 11:00 م
عفاف عبد المعطى تكتب: ضحايا عائلة يعقوب الكاتبة عفاف عبد المعطى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لن يتوقع القارىء نهاية رواية "ما رآه سامى يعقوب" للكاتب الروائى عزت القمحاوى؛ إذ استطاع القمحاوى عبر رواية من حيث الكم قصيرة لكنها حسب القيمة كبيرة، أن يقدم حقبة زمنية ممتدة منذ ما قبل 1952 حتى 25 يناير 2011 .
 
 ولعل القارئ لن يلحظ فعل وتوظيف الزمن بدقة حيث استخدمهما الكاتب بترتيب منطقى فى سياق وصف أسرة سالم باشا يعقوب "الذى كان خطيباً وكاتباً جريئا ووزيرا ناجحا لعدة دورات لكنه تعرض للإهانة فى آخر أيامه وألصقت به تهم الفساد.. الضباط الذين أرادوا أن يجللوا كل من كان قبلهم بالعار" (ص21).
 هذه هى البداية الأولى فى رواية تتسم بتقديم منظومة أسرية منذ الجد سالم مرورا بالأب صبرى وانتهاء بالحفيدين؛ الكبير يوسف والصغير سامى. وقد تكون هذه الفكرة بسيطة فى شكلها حيث تصوير البنية العائلية وتراتبها ليس جديدا على الرواية العربية لكن تركيبة كل شخصية وقضيتها (خاصة الأب المهندس صبرى سالم يعقوب) ودفاعها عنها ذلك ما قدمه القمحاوى بدقة الكاتب المحترف. 
 
لقد أخلص صبرى يعقوب للقضية التى رفعها على الدولة لرد شرف أبيه الذى أنفق حياته مُعظّماً لقدره من حيث الوفاء النادر لأبيه سالم باشا يعقوب الذى جعله "يحتفظ بكل ما كتب أبوه وحتى بالقلم الذى هاجم به الملك فى مقال تسبب فى سجنه وهو نفسه القلم الذى كتب به استقالته من الوزارة احتجاجا على محاصرة دبابات الإنجليز للملك ذاته فى قصر عابدين" كذلك كان صبرى يصرّ على دعوة أصدقاء أبيه من الباشوات فى المناسبات "فكان البيت يمتلىء بالرجال المسنين الذين تتصاعد رائحة العثة من ملابسهم ويأتون  مستندين على عصيهم وعندما يبدأوان فى تذكر وقائع الماضى يتحول النقاش إلى مشادات ينتهى الأفضل منها إلى الخصام بينما يتسبب الأسوأ فى إغماء أحدهم" (ص17) . هكذا ظل المهندس صبرى أسيرا لماضى أبيه ولقضيته التى سيدفع ثمنها حياته وليس حياته فحسب بل حياته الزوجية التى اقترن فيها بالطبيبة الألمانية "أليس شتاينمير" التى جاءت إلى مصر فى برنامج المعونة الطبية من الحكومة الألمانية لمستشفى القصر العينى عام 1980 . حيث انبهرت بشخصية المهندس صبرى قريب إحدى زميلتها من الطبيبات المصريات (التى كانت تسخر منه) بينما رأت أليس فيه رجلا صلبا وسيما ووفيا ومؤمنا بقضية أبيه ومكافحا فى الدفاع عنها والمثابرة فيها . لكن العلاقة بين الزوجين (صبرى/ أليس) اتخذت سمت الصدام والصراع فى الغالب مع الوئام والانسجام أحيانا مما وسم الحياة بين الزوجين بالتوتر أحيانا وبالانفراج أحيانا أقل. وهذا الشكل هو الذى تسبب في تأزم الأحداث المنصبة كلها فى صراع الغرب الألمانى المنضبط متمثلا فى الزوجة أليس (خاصة مع ولديها فى تدريبات السباحة ثم دروس الموسيقى ثلاثة أيام فى الأسبوع يعقبها القليل من الراحة قبل مراجعة دروس اليوم) تضارب النظام الألمانى مع الشرق التائه الغائص فى الماضى وغير قابل للتطوير أو الوعى بالحاضر مجسدا ذلك الزوج صبرى حتى وإن أسفرت هذه الزيجة عن الابنين يوسف المولود فى 1983 وسامى المولود فى 1986 بذلك تظهر حقبة الثمانيانيات منصبة على حياة صبرى الزوجية التى انتهت برحيل الزوجة إلى موطنها الأصلى مع الابن الكبير يوسف بينما فضّل الصغير سامى (الذى ورث الأب وطالما تعاطف مع بكائه على قضية أبيه أو حينما كان يمرض طفليه فيبكى أيضا) البقاء فى مصر ولأن القوة الغاشمة لزوار الليل قد طغت على كل المعارضين للنظام حتى ولو نالوا حقوقهم عبر القضاء النزيه، فبعد يومين من صدور الحكم ببراءة ساحة الباشا سالم مما لحق به من تلويت باشاوات العصر الجديد ما بعد 52 جاء الضيوف الأشداء وكان عرضا مبهرا فى قلب الليل بينما دخلوا ينبشون الأدراج ويعبثون بالكتب وفى أثناء ذلك أعد صبرى يعقوب ما يحتاجه فى هذه المناسبات (بما تحمله كلمة مناسبات من أثر مبهج فى النفس لكن الكاتب عزت القمحاوى استخدمها فى هذا السياق فى نوع من السخرية من بطش زوار الليل) خاصة الأدوية والكتب بينما رأى ابنه سامى الرجال المرافقين لأبيه متواضعين مثيرين للشفقة وقد عبرت لغة الراوى الساخرة منهم بأنهم مثل مجموعة من الممثلين المغمورين لحظة مغادريتهم للمسرح.
 
 
وفى صباح 18 يونيو 2008 اصطحب الرجال الأشداء الابن سامى إلى مشرحة زينهم  ثم فتحوا له الثلاجة كى يرى وجه أبيه النائم فى العتمة الباردة بعدها نُشِرَت أخبارٌ صغيرة تناولت وفاة المهندس صبرى يعقوب بعضها أشار إلى موته فى الحبس بينما أخذت شبكات التواصل الاجتماعى تطرح النقاشات حول مقتل رجل تجاوز السبعين من عمره ديلا على الوحشية كى يتم منعه قصرا من الاحتفاء بالحكم القضائى الذى رد شرف أبيه سالم باشا يعقوب. ثم تحول المهندس صبرى (فى نوع من اللغة الساخرة التى تدل على استهانة الواقع المصرى المعيش بكل صاحب قضية وكذلك استهانة السلطة بمن تعتبرهم رعايا غير آدميين يجب التخلص منهم فى الوقت المناسب بالبطش فى غالب الأحيان) الذى أفنى عمره فى محاولة رد اعتبار الأب إلى مجرد ملف يضم شهادة الوفاة وإعلام الوراثة  وتوكيلين من يوسف وأليس إلى سامى وتوكيل من سامى إلى المحامى (ص30).
 ولأن التاريخ ليس سوى عرض يبدأ لينتهى ثم يبدأ من جديد لا يتغير فيه إلا أسماء الأبطال الذين يقفون على المسرح ولا يدركون أنهم أنفسهم الشىء الجديد الوحيد فى العرض وأنهم كغيرهم سينتهون ذات يوم ويصبحون مجرد غبار كالنسيان (حسب وصف الراوى فى النص) قس على ذلك الوصف بتمام انطباقه على أفعال الأشداء الذى وصفهم الكاتب بدقة مقصودة لوصف أفعالهم نفسها تجاه المعارضين من ثوار يناير 2011 خاصة موقعة الجمل التى كتبها القمحاوى بلغة سينمائية معبرة كأن القارئ يشاهدها بالفعل بتفاصيلها وضحاياها فى المستشفى الميدانى إثر الإصابة برصاص الخرطوش الحى والذى يكون أحد ضحاياها يوسف صبرى سالم يعقوب هذا الشاب الذى كل ذنبه أنه عاد من ألمانيا للاطمئنان على أخيه سامى المقيم فى مصر خاصة أن سامى اطلع على الحقائق التى نغفل عنها بينما يقدمها الإعلام الغربى دون مواربة.  رحل يوسف فى 3 فبراير فى الميدان وهى الصدمة النهائية لسامى والتى ستقضى على حياته نهائيا عندما يستدعيه الأداء إلى مبناهم المعظّم للتحقيق معه بعد أن سلطوا آلتهم الإعلامية على نشر إشاعة وجود جاسوس ألمانى يُدعى (جوزيف جاكوب) وسط الميدان وبطريقتهم اللانهائية فى الترهيب يرسخون داخل سامى الخوف لينتهى النص به خائفا من الرد على حبيبته الأرملة فريدة التى وصف الراوى علاقتهما الخاصة ولقاءتهما الرومانسية فى لغة شفيفة مناسبة لفعل الحب؛ ذلك الحب لذى جعل سامى يعقوب  يصور من خلف الكاميرا وهو يراقب أفعال الحب التى  يمارسها القط الشبق مع معشوقته القطة فى نوع من الإسقاط على الفراغ المعنوى الذى يعانيه منذ أن كان طفلاً واسع الخيال يتعايش مع التهيؤات وينسجم مع الحياة بوصفها عرضا مُسليا وكى يكون ذلك عوضا له عن حياة الفراغ والوحدة التى يعانيهما بعد رحيل الأم والأخ بالسفر والأب عن الدنيا.    
لقد ظهرت قدرة الكاتب الكبير عزت القمحاوى – عبر الراوى - على نسج حبكة روائية فنية مُصاغة بإحكام بطلها الرئيسى الشخصيات التى اتسمت بدقة الوصف خاصة داخل الأسرة المجنى عليها فى الواقع بفعل آلية البطش العليا المتوارثة فى حقب حاكمة لا تتوانى عن تكرار أساليبها نفسها لكن مع اختلاف الأوجه البشرية المنفذة لسياسات القهر نفسها ليبدو فيها تسلسل الأحداث تسلسلا منطقيا منذ بدايتها حتى نهايتها.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة