خالد عزب يكتب صلاة خاصة لصبحى موسى.. تاريخ من الصراع اللاهوتى

الأربعاء، 13 مارس 2019 06:00 م
خالد عزب يكتب صلاة خاصة لصبحى موسى.. تاريخ من الصراع اللاهوتى صلاة خاصة

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تتعدد طبقات الهوية فى المجتمع والتاريخ المصري، بدءا من المرحلة الفرعونية القديمة إلى التقاء الشرق بالغرب عبر الهلينستية، مرورا بمجيء المسيحية إلى مصر وتشكلها وفقا إلى جانب من المعطيات والأفكار والفلسفات المصرية، وتبنيها كإعلان عن الهوية المصرية فى مواجهة المحتل الروماني، حتى أنها باعلان الانفصال الكبير بين الأرثوذيكس وكنائس الغرب فى مجمع خلقدونية عام 451 ميلادية ازداد التقارب ما بين الهوية المصرية والمسيحية المصرية، فاعتبرت مصر هى إيجبت أو بلاد القبط.
 
هذا ما تضعنا أمامه رواية "صلاة خاصة" للمصرى صبحى موسى، والصادرة مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، والتى ذهب فيها إلى تعرية واحدة من الحقبات الثقافية المهمة ليس فى تاريخ مصر وحدها ولكن فى تاريخ المنطقة العربية ككل، وتاريخ الديانة المسيحية فى العالم أجمع، وهى حقبة المجامع المسكونية التى عقدت للفصل فى العديد من المسائل الفقهية الخلافية، والتى وسمت بالهرطقات من قبل الكنيسة، والتى بلغ حد الخلاف فيها أن تم عزل العديد من الأساقفة الكبار أمثال يوحنا ذهبى الفم ونسطورس فى القسطنطينية وديسقورس فى مصر، وبعزل الأخير فى مجمع خلقدونية حدث الانفصال الكبير ورفض الأقباط البابا الذى فرض عليهم من قبل الإمبراطور الرومانى، وظلوا متمسكين بتبعيتهم الروحية لديسقورس المنفي، وحتى بعد موته اختاروا بابا آخر هو تيموثاوس القط فى حين فرض الامبراطور بابا من قبله لقب بتيموثاوس ذو القلنسوة البيضاء.
 
لا يتوقف موسى عند كشف الماضى القديم والأليم للكنيسة المصرية، ولا الصراعات اللاهوتية المسيحية فى القرون الميلادية الخمس الأولى، ولكنه يكشف عما تعانيه الكنيسة المصرية الآن من جمود دام لقرون طويلة، حتى أنها مازالت تواجه نفس الأسئلة التى كانت تواجهها فى القديم، ومازال أبناؤها يسعون لتقليل سطوة الرهبان على الكنيسة، هذه السطوة التى فرضت أحادية الرأى والرؤية، وغلبت الخوف والحذر على جميع الأقباط، وزادت من عزلتهم، وتمسكهم الشديد بمقولات الآباء الأوائل ورؤاهم اللاهوتية، رغم مفارقة الزمان لكل هذه الرؤى، ورغم ما حدث من تطورات مدهشة على أرض الواقع خاصة فى القرن العشرين والحادى والعشرين.
 
اختار الكاتب لروايته زمنا حديثا راهنا هو ما بعد ثورة 25 يناير، واختار مكانا افتراضيا يدعى دير جبرائيل الملاح، وامتد من الحاضر إلى الماضى حيث جعل دير الملاح واحدا من أقدم الأديرة فى منطقة جبال القلزم، بما يعنى أن هناك العشرات من الأديرة التى هُجرت واختفت، وربما كان وجودها أقدم من أديرة أنطونيوس وبولا فى القلزم، أديرة وادى النطرون فى الصحراء الغربية. ومن ثم فقد أرخ موسى لحركة الرهبنة فى مصر، ونشأتها وتطورها وأزماتها وخلافاتها مع الكنيسة، خاصة حينما قرر البابا كيرلس أن يحرم تجسيد المسيح، فما كان من الرهبان المصريين المتأثريين بالفكر المصرى واليونانى والرومانى إلا أن صرخوا فى الصحراء بأن إلههم يسرق منهم، ونزلوا إلى الأسكندرية فاحتلوها، وحاصروا الكنيسة الأم، رافضين خروج أو دخول أحد إليها، ولما اكتشف البابا مخططهم لقتله،تحول عن قناعاته الدينية، وقام بحرمان كل من عارض التجسيد، كان ذلك فى مقابل استغلال طاقاتهم وحماسهم فى تخليص الأسكندرية من عشرات المعابد الوثنية التى كانت بها، ومن اشهرها السيرابيوم الذى كان يعد رمز للتعدد والسماحية الدينية، فضلا عن معبد الإله ارتميس ومعبد الإلهة إيزيس الذى كان يأتيه الحجاج من مختلف بقاع الأرض، مؤمنين بكونها الإلهة أم الإله، ومن ثم قرر كيرلس أن يجعل مريم بديلا عن إيزيس، وأن يمنحها لقب أم الإله، مما أدخل لمسيحية فى نفق السؤال عن طبيعة المسيح، وأمام رفض اسقف القسطنطينية يوحنا ذهبى الفم القول بطبيعتى المسيح، فقد تم شلحه، ومع رفض نسطورس القول بأن مريم أم الإله، بما يعنى أنه جانبه الإنسانى غير متحقق، فقد تم شلحه، وهو ماحدث أيضا مع الكاهن أوطاخي، الذى انحاز له البابا كيرلس رغبة فى الانتصار من جديد على القسطنطينية، مما أدى إلى تحالف كل من روما والقسطنطينية على كيرلس ورفض تعضيده لأوطاخي، وشلحه معه أيضاً، فما كان من كيرلس إلا أن قام بشلحهم جميعاً، لتكون هذه بداية الانفصال الكبير بين كنيسة الأسكندرية وغيرها من الكنائس الكبرى، وليبدأ عهد الدخول فى نفق الإقليمية والتقوقع.
 
كان دير الملاح أشبه بالواحة التى يستظل بها كل أصحاب الفكر الحر، والباحثين عن الحقيقة العلمية، والراغبين فى المعرفة بشتى ألوانها، هكذا أراد له آباؤه الأوائل بداية من الملاح مرورا بتلميذه ديمتريوس، ثم أبانوب ثم رفائيل الذى صاحب البابا اثناسيوس فى رحلاته وصولاته ضد أريوس ومن تبعه من المهطرقين ومن احتمى بهم من أتباع ميليتيوس فى ليكيوبوليس أو أسيوط الآن، وكون دير الملاح مع دير النساخ فى أسيوط حلقة علمية سرية لا يرتادها غير الراغبين فى المعرفة الحقة، عرف دير الملاح باسم دير الشراح الذين يقومون على شرح المخطوطات وما ورد فيها من معارف ومعلومات وتأويلات وإشارات، بينما عرف الدير الدير الذى لجأ إليه أثناسيوس فى سنوات غضب الامبراطور قسطنطين عليه بدير النساخ، فاقام به اثناسيوس مدة أرسل خلاله رسائله إلى مختلف الأساقفة والأديرة، فظل الرهبان الذين كانوا يعملون على نسخ رسائله وعظاته فى المكان، وظلت مهنتهم النسخ، والبحث عن المخطوطات وبيعها، أما من يريد مزيدا من المعرفة فعليه أن يقطع درب الرهبان فى الصحراء الشرقية، هذا الدرب الرابط بين دير النساخ الواقع على مقربة من النيل فى الجبل الغربى باسيوط وبين دير الشراح أو الملاح القائم على هضبة فى جبال القلزم، ليلتقى برهبانه الذين لا عمل لهم غير المعرفة والعلم والاطلاع والشرح، وجعله على مسافة من كل الصراعات ومحاولات بسط النفوذ.
 
تقوم الرواية لدى صبحى موسى على طبقات من المعرفة والأزمنة والعوالم، ويتضافر فيها التاريخى بالأسطورى بالواقعي، ويتعدد الرواة فى إطار راو رئيسى للنص ككل، كما تتعدد الحكايات التى توصلنا إلى حكايات أخرى، وكأننا أمام بناية مليئة بالأبواب التى تفضى إلى غيرها، وفى كل باب حكاية أكثر إدهاشة وحضوراً، لكن الحكاية لدى موسى لا تنتهي، فهى دائما خيط متواصل، حلقات متوالية،وخطوط متوازية، تتقاطع تارة وتنفصل أخرى، وما بين التباديل والتوافيق فى الحكى تجيء عشرات الشخوص وتتعدد الأزمنة وتتسع الجغرافيا فتبدأ من طليلطلة وروما وأثينا إلى الأسكندرية وقرطاجة والمدن الخمس، مرورا بكبادوكيا والقسطنطينية وأفسس وأنطاكيا الموصل واليمن وأوشليم وليكيوبوليس وغيرها، تتسع الأزمنة لتبدأ من أوريجانوس العلامة المحبوب المرفوض فى نفس الوقت، مروراً بمجامع نيقية وأفسس وخلقدونية وغيرها، لتشكل ملحمة نسجها الأقباط بإصرارهم وفكرهم وعنادهم على مدار ألفى عامي، حيث بدأت المسيحية ضعيفة ثم سرعان ما فرضت نفسها، لتدخل فى صراعات كبرى، يضطهد فيها الأقباط الوثنيين الذين اضطهدوهم من قبل، وليفرضوا كلتهم على مختلف الكنائس والحكام، ولينتهى الأمر بتراجيدا بالانفصال الكبير ثم الضعف ومجيء المسلمين والدخول فى عصور الجمود والظلام.
 
فى هذه الرواية نتعرف على الأصول التى شيدت منها المسيحية هيكلها الفكرى والفلسفي، حيث امتزج الفكر المصرى بأطروحات الأساتذة الرواقيين والأفلاطونيين الجديد، وفى الوقت الذى مالت فيه الكنائسس العربية إلى فصل السماء عن الأرض، والاقرار بقوة إله إعلى استمد منه المسيح قدراته حسبما قال أريوس، فإن الكنيسة المصرية مزجت ما بين السماء والأرض، واصرت على القول بطبيعتى المسيح، ووحدة الأقانيم الثلاث.
 
وفى الوقت الذى شهد فيه دير الملاح الصراعات القديمة بين الكنيسة والهراطقة، فإنه ايضا شهد جانبا من الصراعات الحديثة بين الرهبان والكنيسة فى الزمن الحديث، وسعيهم لفرض كلمتهم عليها، وسعى الكنيسة بعد ثورة 25 للاجابة على الأسئلة المؤجلة من عشرات العقود، ورأب الصدع الذى نشأ عن الانفصال، وما ترتب عليه من مشكلات، ساعية للحاق بقطار المدنية الحديثة، ودمج الأقباط فى وطن واحد بعالم جديد لأمة ثائرة.






مشاركة



الموضوعات المتعلقة




الرجوع الى أعلى الصفحة