مغامرة جديدة يخوضها الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، حيث قرر مواجهة البطش الأمريكى المحتمل بالنظام الحاكم فى فنزويلا، الذى يتزعمه خصم واشنطن، نيكولاس مادرور، بنشر مقاتلات على سواحل كاراكاس مسلحة بصواريخ مضادة للغواصات، وذلك فى إطار رغبة موسكو فى التصدى لأى تدخل أمريكى محتمل لقلب المعادلة السياسية لصالح زعيم المعارضة الفنزويلية خوان جوايدو، والمدعوم من قبل المعسكر الغربى، وهو ما يثير مخاوف كبيرة حول مواجهة جديدة محتملة بين روسيا والولايات المتحدة، خاصة وأن الانتشار العسكرى الروسى فى المحيط الجغرافى الأمريكى، سوف ينظر له من قبل الإدارة الأمريكية باعتباره تهديدا مباشرا للأمن القومى.
الموقف العسكرى الذى تبنته موسكو فى كاراكاس يمثل امتدادا صريحا للدور الذى تقوم به فى السنوات الأخيرة، والذى يقوم على دحض الخطط الغربية، والتى تهدف فى الأساس لإعادة تشكيل الخريطة السياسية للعديد من دول العالم، لتصبح الأنظمة الحاكمة فيها موالية لهم، بحيث يمكن استخدامهم كأذرع لتحقيق أجنداتهم السياسية، وهو الأمر الذى نجحت فيه روسيا بكفاءة كبيرة فى مناطق عدة بالعالم، كان أخرها فى سوريا فى السنوات الماضية، حيث استخدمت قوتها العسكرية لفرض كلمتها على الأرض، وتدحض الرؤى الغربية التى اعتمدت على الميليشيات الإرهابية للإطاحة بالنظام السورى، تمهيدا لتقسيم الأراضى السورية، فيما سمى بـ"الشرق الأوسط الجديد".
تحول تدريجى.. روسيا من المهادنة إلى المجابهة
ولعل استخدام القوة العسكرية من قبل الإدارة الروسية لدحض الخطط الغربية لم يكن الأول من نوعه فى سوريا، حيث سبق لها القيام بالدور نفسه فى الأزمة الجورجية عام 2008، عندما تدخلت لدعم استقلال إقليمى أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، بالإضافة إلى قيامها بضم شبه جزيرة القرم عن سيادة أوكرانيا فى عام 2014، ردا على الدعم الأمريكى لإسقاط الرئيس فيكتور يانكوفيتش الموالى لموسكو، فى خطوة ربما أثار حفيظة الولايات المتحدة وحلفائها، ومازالت أصدائها قائمة حتى الآن، سواء فى الإدانات الغربية المتواترة، أو العقوبات المفروضة على الحكومة الروسية سواء من قبل الإدارة الأمريكية أو الاتحاد الأوروبى.
بوتين حاول مهادنة بوش الإبن فى حربه على أفغانستان
وهنا يمكننا رصد التحول الكبير فى الموقف الروسى تجاه الهيمنة الأمريكية، منذ انهيار الاتحاد السوفيتى، حيث تدرجت مواقف موسكو منذ وصول الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إلى عرش الكرملين تجاه التدخلات الأمريكية من المهادنة فى البداية، عبر السماح للقوات الأمريكية بالدخول إلى أفغانستان عبر الأراضى الروسية فى 2002، إلى المجابهة السياسية فى الحرب الأمريكية على العراق، والتى رفضت فيها موسكو إدعاءات إدارة بوش وحلفائه الأوروبيين التى دارت حول امتلاك نظام صدام حسين لأسلحة دمار شامل، لتتجه بعد ذلك إلى استخدام قوتها العسكرية فى الأزمات المذكورة لفرض رؤيتها باستخدام قوتها الصلبة، فيما يمثل تحد صريح للهيمنة الأمريكية على العالم.
مفارقة جديرة بالملاحظة.. روسيا تنقل الصراع إلى العمق الأمريكى
إلا أن المفارقة الجديرة بالملاحظة فى نشر المقاتلات الروسية فى كاراكاس تتمثل فى الموقع الذى تسعى موسكو أن تضع لها قدما به فى المرحلة الراهنة، خاصة وأن الأراضى الفنزويلية تمثل فناءا خلفيا لواشنطن، على عكس السوابق السالف ذكرها، والتى ابتعدت عن الأراضى الأمريكية، وبالتالى فيصبح الوجود العسكرى الروسى هناك، فى ظل الظروف الراهنة، تهديدا صريحا ليس فقط للنفوذ الأمريكى فى منطقة تمثل عمقا استراتيجيا لها، ولكن للأمن القومى، فى ظل مخاوف كبيرة من اندلاع حرب نووية بين واشنطن وموسكو على إثر الانسحاب الأمريكى الأخير من معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى، وهو ما ينذر بمخاوف كبيرة.
بوتين ومادورو
ويبدو أن "الدب" الروسى انتقل إلى مرحلة جديدة فى صراعه مع الهيمنة الأمريكية، حيث كان استخدام القوة العسكرية فى الماضى القريب مرتبط أولا بالدفاع عن النفس، وهو ما يبدو فى النموذجين الجورجى والأوكرانى، والذى سعت إداراتى بوش وأوباما، إلى تضييق الخناق على موسكو فى محيطها الجغرافى، ثم اتجهت بعد ذلك، فى الحالة السورية، إلى مزاحمة النفوذ الأمريكى فى منطقة الشرق الأوسط، والتى تمثل أحد أهم مناطق النفوذ الدولى لواشنطن فى العالم، بينما تتحول حاليا إلى الهجوم من خلال تطويق واشنطن فى عمقها الاستراتيجى عبر اختراق دول أمريكا اللاتينية وتوطيد نفوذها هناك عبر البوابة الفنزويلية.
نجاح منقطع النظير.. موسكو تستلهم تجربتها فى سوريا
ويمثل النجاح المنقطع النظير الذى حققته روسيا على الأراضى السورية أحد أهم العوامل المشجعة التى دفعت موسكو لمحاولة القيام الدور نفسه فى أماكن تبدو بعيدة وربما أكثر خطورة، فى محاولة لتقديم نفسها باعتبارها قوة مضاهية للقوة الأمريكية، والتى طالما استخدمت الأداة العسكرية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية فى العديد من مناطق العالم، وبالتالى اتجهت لاستخدام قوتها العسكرية لمجابهة الخطط الأمريكية لتوطيد نفوذها.
الجيش الروسى نجح فى تقويض إرادة الغرب فى سوريا
وبالتالى يصبح نشر القوة العسكرية فى فنزويلا بمثابة محاولة جديدة من قبل روسيا لكسر الهيمنة الأمريكية، عبر تقويض خطط واشنطن الرامية إلى إعادة هيكلة الأنظمة الدولية لتصبح موالية لها، وهو ما يمثل فى جوهره تكرارا للتجربة الروسية فى الأراضى السورية، وذلك فى إطار المساعى الروسية لاستعادة مكانتها كأحد القوى العظمى على الساحة الدولية.