عبر خفيفًا كما يعبر النسيم، عميق الأثر كما يفعل الندى فى النبات، وهادرًا كالفيضان الذى لا يحتمله نهر ولا يحدّه شطّ، وبين 127 سنة من الميلاد و96 على الرحيل، ترك السيد درويش البحر نغمًا وأغنيات وأحلامًا وأناشيد ليست حصيلة 31 سنة قضاها على وجه العالم، و8 سنوات فقط احترف فيها الفن، وإنما هى امتداد الأجداد فى سراديب المعابد وممرات القصور المصرية القديمة، وتطلعات الأحفاد إلى موسيقى تحفظ ملامحهم، وتحنو على أيامهم الجافة المتشققة، وتقيم جسرًا بين الأرواح الهائمة والمستقبل الذى ترصده العين ولا تطاله اليد.
من اتّساع المدى والمدينة أتى، من المدّ والجزر وتأجّج الروح الوطنية، وأتى من ماء البحر وملحه، فكان رحبًا شوّافًا ذا نكهة ورائحة تُربّتان على الروح وتكويان الجروح، ولكنه كان عذبًا فُراتًا إذا ترنّم ودندن ونغّم هموم البلاد وأحلامها، ضرب ريشة عوده فى أوردة الناس ففجّر منها الموسيقى والغناء نديّين طازجين كما يتجدّد الصباح فى عيونهم، وكما تُخَضّب رائحة اليُود شقوق صدورهم وتغضُّنات أرواحهم، فكان السيد درويش البحر درويشًا حقيقيًّا، أمينًا ومُخلصًا فى مقام البحر، وفى مقامات البلاد والعباد والموسيقى.
وقتها كانت مصر قد قضت قرابة 4 قرون فى الأسر، منذ أنجز السلطان العثمانى سليم الأول جريمته فى حق قانصوة الغورى، ففرق جيشه وعلق جسده الثمانينى الشائخ على أبواب القاهرة، لتبدأ حقبة طويلة من استعمار الأتراك واستلابهم لمقدرات المصريين. وبين نزح العمال والفنانين والنابغة إلى إسطنبول، وهيمنة الجراكسة وأتباع الانكشاريين على السلطة، تسللت موسيقى الأتراك لتودى بما تبقى من فولكلور الأجداد وبقية عطاياهم، فتوارت الموسيقى القبطية والترانيم لصالح القوالب الموسيقية والغنائية المستجلبة مع المحتل، وأخذت تلك الأنماط النغمية والأدائية تتوسع وتتصدر المشهد وتهيمن على ذوائق المغنين والمستمعين، وحتى مع تطور فنون الغناء فى القرن التاسع عشر وتوسع موجاتها وتعدد روافدها، وارتباط الأمر بكتيبة ضخمة ممن تربوا فى الأزهر تربية لا تتورط كثيرا فى حظائر المستعمرين، ظلت حركة الموسيقى المصرية مرتبطة بمرجعياتها التركية، وقتها كان الملمح الأبرز لتلك المدرسة الاستناد إلى بنية شجرية متوازنة فى صفّ الأنغام، تتأسس على لازمة واحدة تتفرع منها غصون نغمية مقولبة، لتعود إليها مرة أخرى، بينما تتسيد آليات التطريب التقليدية المعتمدة على المط والتطويل والمُدود والتلوين الصوتى للكلمات، وتلعب الجوقة أو «البطانة» دور الحلية الجمالية التى لا تطور طاقة الغناء ولا تشتبك معه، وحتى بعدما استُبدلت بها جوقة عازفين انحصر الأمر فى التخت التركى، وقفا على العود والقانون والناى والإيقاع، لكن هارمونية الأداء وديناميكيته لم تكن أمرا شاغلا للمؤدين والمنشدين، فكأن حالة الاسترخاء الوطنى والاستكانة للمحتل انعكست على الحناجر، فأنفقت طاقتها على الجرى فى المكان، على الزخرفة أكثر من التعبير، على إزجاء الوقت بالنغمة الواحدة والكلمة الواحدة وطريقة الأداء الرتيبة التى لا روح فيها، لذا لم يكن مُتوقعا أن تتحرر مصر من قبضة الأتراك، قبل أن تحرر فنونها من سطوتهم، وتستعيد روحها من الزخرفة المملة إلى التعبير الحى المتدفق.
مع دخول ثمانينيات القرن التاسع عشر، بدا أن الجسد الواهن مازال يناضل لاستعادة روحه، خرج أحمد عرابى فى زُمرة من جنوده مواجها الخديو توفيق، قال البعض إنه حمل مطالب وطنية وثار من أجل إصلاح سياسى ودستورى وهيكلة للحكومة، وتقول الوقائع إنه طالب بامتيازات للجيش وترقيات للضباط المصريين وقرار وطنى بالتحلل من سطوة الإدارة الأجنبية، وأيا كانت مطالب «عرابى» فى تحركه، فإن التحرك نفسه كان إشارة إلى طاقة تتشكل فى عمق المجتمع، وإلى رغبة متأججة فى التحرر من قرون العثمانيين الثقيلة، وتلك الإشارة كانت قوية بما يكفى لأن تُحفز مراكز الفعل فى الجسد المصرى، وتدفعها فى اتجاه البحث عن هويتها التى طمرها الاستعمار طويلا، فأخذت تلك الطاقة تسرى فى وعى المصريين وعقولهم، حتى بعدما تكالب المتكالبون على «عرابى» وأوردوا ثورته العفوية موارد الهلاك.
عامل البناء الرحال
بعد أقل من 10 سنوات من هزيمة «عرابى» وإجهاض تحرّكه وبدء الاحتلال الإنجليزى، حطّ الدرويش رحاله، تربّى تحت فاقة وشظف، وتعلّم فى معهد دينى، وعمل فى بناء البيوت وغناء المقاهى، لتتكوّن فسيفسائية عميقة التنوّع والخصوبة، بما يليق بنذرها لإعادة صياغة الألوان والتكوينات فى أحداق الرائين، والساعين إلى تمثُّل ذواتهم وفق إيقاع ونغم يقيم مائل الحياة وفوضاها، الفسيفسائية التى ادّخرت لها دراما الحياة سياقًا غنيًّا ومكتنزًا بالتفاصيل رغم محدودية الزمن، فكانت الرحلة الأولى للدرويش إلى مرابع الشام ومخزونها من ثقافة الدولة العباسيّة فى عامه السادس عشر، عاملاً وفنّانًا وتلميذًا أيضًا، قضى فيها عشرة شهور يتعلم على أيدى الأخوين أمين وسليم عطا الله وأستاذه الأهم الشيخ عثمان الموصلى، ثم رحلته الثانية بعد أربعة أعوام ولعامين كاملين، فحصّل فى الرحلتين الرزق والمعرفة، استعدادًا لعودة يضع فيها الممتلئ ذخيرته، ويطبع كفّه خضيبًا بالألق والبهاء على وجه الفن.
كانت الولادة فى العام 1892 كفيلة بأن تبث فى روح الطفل الوافد جذوة من حماسة «عرابى» التى لم تنطفئ بعد، وأن تكون الولادة فى الإسكندرية فتلك قيمة مضافة، إذ ظلت المدينة محافظة على جانب غير هيّن من روحها القديمة، بين احتضانها لرأس الكنيسة الأرثوذكسية ومقر البطريركية وكرسى مارمرقس، وانتشار الآثار والمعالم الإغريقية والرومانية فى أنحائها، وقدرتها على الإمساك بهيئة كوزموبوليتانية عبر أجيال متتالية من دول وثقافات شتّى، ممن جذبتهم التجارة أو الثقافة أو المرافئ العارضة، واختاروا أن يقيموا فى تلك البقعة ويمنحوها روحا مختلفة تماما عمّا نجح الأتراك فى فرضه وتسييده فى ربوع مصر، كما ساعده احتراف أعمال البناء على أن يعى هندسة السبك وأصول المعمار، فتجلى ذلك واضحا فى موسيقاه وألحانه التى تأسست كبناء يمسك كل حجر فيه بجاره وفق نظام وخفّة، لا تستشعر فيها الوهن، ولا يبدو أنهما أُجبرا على الترصّص دون علّة أو غاية. هكذا توفر لـ«درويش البحر» ما يعينه على أن يكون واسع الروح كما يتسع مدى المتوسط، عذبا كالنيل الذى لم ينقطع عن جريانه إلى البحر، صُلبًا كهرم من «الأهرامين» اللذين بنى المجد بينهما، وقادرا على الإمساك بأثر ما فعله العثمانيون فى روح مصر، بينما يستمع ويُدندن ويُنتج أشكالا مغايرة من الموسيقى والغناء.
استنطاق الموسيقى والنغم
مثّل سيد درويش نقلة ثقافية وجمالية وإبداعية كبرى فى مسار الموسيقى الشرقية، فقد نقلها من مرحلة الزخرفة النغمية المبالغ فيها، ومرحلة التطريب الشديد المقصود لذاته بعيدًا عن وظيفيّته وأدائه ومردوده النفسى والشعورى على المتلقين، إلى مرحلة تعبيرية تضافرت فيها النغمة الموسيقية مع الجملة اللغوية مع إيقاع وروح العصر، واشتغلت على البعد الروحى والنفسى للمستمعين بقدر يقترب من قلوبهم وعقولهم فى آن واحد، فعبر بالموسيقى والغناء من الدور الجمالى البحت، إلى الدور الدلالى والوظيفى، واكتشف وساهم فى صياغة هويّة مصرية خالصة، لا إلى الأتراك تجنح ولا إلى الأوروبيين والأفارقة، وإنما كانت جماعا من كل بدن، وروحا مصرية خالصة، كما كان التمثيل العملى الأول للتقنية البولوفونية «تعدّد الأصوات وخطوط الألحان» فى الغناء العربى والشرقى، الذى كان عماده لحنا واحدا تعزفه الفرقة ويغنّيه المطرب والجوقة، لكنه اشتغل على تعدُّد الألحان والخطوط وإنتاج تنويعات من مادة اللحن، فى مقامات قريبة أو من جنس النغمة نفسها، تتضافر وتتحاور معه فى جديلة عضوية لها طاقة إمتاع وبيان كبيرة، فكأنه أعاد مومياء محنّطة من قاعات العرض المتحفية إلى عمق الشارع وتفاصيل الحياة، نافخًا فيها من روح الناس، ومقتبسًا منهم منظومة جديدة لإعادة تحرير المقامات الشرقية من غلالة التقليد التى سيطرت عليها قرونًا، وخصمت من وهجها وتطورها وقدرتها على التواصل الحى والفعال.
كان سيد درويش وطنيًّا عتيدًا، يغنى للبلاد كما تُحب أن تسمع، وكان عاشقًا عظيمًا ينفق محبته فى النغم، وكان ثائرًا لا يفتقد الشجاعة ولا يعوزه الدهاء، أنفق روحه بالتساوى بين كل أحبته ومن يحجزون مساحة فى روحه، فقال «بلادى بلادى»، و«أنا المصرى كريم العنصرين»، و«يا عزيز عينى»، و«مصر وطنّا سعدها أملنا»، و«العسكر الأتراك» أو «مصطفاكى بزياداكى» بالصدق نفسه الذى بدا فى تغنّيه بمحبة جليلة وفردوس ورضوان «والله تستاهل يا قلبى»، «يا صاحب السحر الحلال»، و«أنا هويته وانتهيت»، و«يا ناس أنا مت فى حبى»، و«خفيف الروح»، وحينما حرّم الإنجليز ذكر سعد زغلول، بينما تعتمل الثورة فى النفوس، قال «يا بلح زغلول يا حليوة يا بلح/ يا زرع بلدى عليك يا وعدى يا بخت سعدى».. فكان تمثيلا عميقا لنضج الوعى المصرى بين عرابى 1882، وزغلول 1919، النضج الثورى والسياسى والوطنى، والنضج العاطفى الذى تحلل من ميراث اليشمك والحرملك، ليُصرّح بمحبته فى الوقت الذى تنزع فيه هدى شعراوى ورفيقاتها الغلالة السوداء التى فُرضت عليهن.
الغناء على ألسنة الناس
كان سيد درويش إلى جوار قدرته على تكثيف العالم وتعبئته فى مقطوعة موسيقية وضفيرة نغمية عضوية الارتباط بالناس والمكان، قادرًا على اختزال شتّى قصصهم وسياقاتهم فى دراما حياته المتشابكة، وفى ملامحه وبنيته «الكولاجيتين» اللتين لن تقفا على تبويب محدّد لهما فى صفحات كتب الأنثروبولوجى والأعراق والسلالات، فقوامه المعتدل لا يشى بمرجعية محدّدة لا إلى شمال المتوسّط ولا جنوبه، وملامحه انتخاب ديمقراطى وطبيعى لـ«تيمات» ومفاتيح عرقية عديدة، بوجه كامل الاستدارة كرغيف بلدى طازج، وكأوروبى آرى نقى الدم والسلالة، ولكن تتوزّع فوق الرغيف صنوف من الغموس تُثرى المائدة وتخصم القدرة على نسبتها إلى مطبخ ما، فالأنف يقف على تخوم النحت الأفريقى تدعمه شفتان غليظتان نسبيا. البشرة سمراء كطين «كيميت» ومومياوات الأجداد، والعينان ضيّقتان منمنمتان كأنهما إلى الرومان أقرب، بينما الجبهة واسعة فسيحة ولها بروز شامخ ومعتدّ بذاته كتل ينتصب فى صحراء شبه الجزيرة العربية أو فى أطراف مصر، وكذلك الأذنان اللتان تشبهان يدى فنجانى قهوة عربية صُنِعتا بروح خزّاف أوروبى ليشرب فيهما سائح أفريقى على طاولة مقهى فى حى الحسين.
تأسس مذهب سيد درويش فى الموسيقى والغناء على موازنة عميقة وبديعة بين الكلمة والنغمة والصوت، فى وقت كان الغناء السائد يراهن على الصوت وحده، ثم الكلام بقدر ضئيل، مع قدر ضخم من التعقيد والتشابك فى المقامات وأساليب الأداء الصوتى، لكن «درويش» ذهب إلى الضفة المقابلة تماما، فانطلق من أرضية البساطة والجمل الموسيقية العارية من الزخرفة، المكتسبة لجمالها من وظيفيتها وحُسن أدائها لدور التعبير والترجمة للكلمة والشعور والحالة النفسية. تخلى الموسيقى المُشبع بالنغم العربى والتركى عن التسجيع والتكرارات والالتفافات المقامية والإيقاعية، وعمل على خلق مساحة من التآلف بين عناصر الأغنية الثلاث: كلمة بسيطة وسهلة الفهم، نغمة مُعبرة ومُترجمة للمعنى، وصوت سهل ومتدفق ومشحون بطاقة سابقيه، فكأن العناصر الثلاثة ضفيرة واحدة، ثلاث كلمات من جذر واحد، أو ثلاثة ألحان من مقام واحد وثلاثة أصوات من طبقة واحدة، كل عنصر يحمل جانبا من المعنى ويملك إيصاله كاملا بمفرده، لكنها فى اتحادها تأكيد بلاغى وفنى، وشحن نفسى وروحى، ومعايشة كاملة تستقطب السامع وتُجبره على إسلام نفسه لتلك الرسالة العلوية التى تشبهه، وتختزن قداستها الباهرة فى عاديتها المُفرطة.
احترف سيد درويش التلحين والغناء فى الثالثة والعشرين من عمره، وعبر ثمانى سنوات فقط أنجز عشرات الأدوار والطقاطيق والموشحات والأناشيد والمسرحيات الغنائية، ليترك ثروة ضخمة ربما لا يطاول حجمها وأهميتها أحد، حتى من قضوا ضعف عمره فى امتهان الفن. لا يتوقف الأمر على إنجازه عشرات من الألحان التى مازالت تتردد على ألسنة الناس، عبر 10 أدوار و12 موشحا و12 نشيدا وقرابة 20 طقطوقة و31 مسرحية، وإنما أثره الأهم فى دفع فن الغناء المصرى خطوة واسعة إلى الأمام، بعيدا عن الزخرفة والحليات الجمالية المبالغ فيها لمدرسة الغناء التركى، وعن الإيقاعات الصاخبة والمتسارعة للغناء الغربى، ليخلق مساحة ذهبية بين المساحتين، سعى لتطويرها بإنجاز أوبرا مصرية خالصة، ورغم أن القدر لم يمهله لاستكمال الحلم، فإنه يظل الأب المؤسس للموسيقى المصرية فى القرن العشرين، والحديقة الواسعة التى نبت فيها محمد القصبجى ورياض السنباطى وزكريا أحمد وسيد مكاوى ومحمد عبدالوهاب وزكريا الحجاوى وطابور طويل ممن تشبعوا بروح درويش البحر، وتدفقوا كما يتدفق النهر، مستكملين رسالته ومحافظين على الهوية التى استكشفها والسكة التى اخترعها.
عبر 31 سنة قضاها «درويش» على يابسة الله والناس والموسيقى، خلّف عشرات من الألحان، حلّق فى مدارات الأدوار والموشّحات والطقاطيق، وفرد جناحيين عريضين ولامعين فى فضاء المسرح، فكان أبًا حقيقيًّا وعميق التأثير والحفر والتشكيل للمسرح الغنائى منذ الربع الأول من القرن العشرين، ورسّخ مدرسة تُقيم عماد المعنى والدراما وطاقة التشخيص على نغمات السلّم الموسيقى، بما قاد إلى مرحلة مهمّة من تطوير فنّى الغناء والتمثيل على حدٍّ السواء، ليكون درويش البحر برحلته القصيرة ومنجزه الضخم، الصوت الأكثر لمعانا واللبنة الأكثر اكتمالاً وجمالاً فى معمار الموسيقى الشرقية طوال القرن العشرين.. وربما لقرون بهيّة مقبلة.
سيد درويش