قال الدكتور محيى الدين عفيفى، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، إن التعايشَ السلمى ضرورةٌ حياتيةٌ لا يستغنى عنها الناس فى أى زمان ومكان، فقد شاء الله تعالى أن تكون التعدديةُ من السنن الثابتة، وقد أراد الله تعالى أن تتعدد الأديان وأن يتعايش الناس فى سلام، كما أن الإسلام تميز برفضه فلسفة (الصراع)؛ لأن الصراع ينهى التنوع والتعدد والتمايز والاختلاف الذى هو سُنَة من سنن الله فى سائر المخلوقات، وأحل محلها فلسفة (التدافع) الذى هو حَراك يعدلُ المواقفَ، ويُعيدُ التوازنَ والعدلَ، مع بقاء التعددية والتعايش والحوار والتفاعل بين مختلف الفرقاء.
وأضاف عفيفى خلال كلمته فى اللقاء المشترك، الذى تنظمه المنظمة العالمية لخريجى الأزهر بالتعاون مع الرهبان الفرنسيسكان بمصر تحت عنوان: "حوار السلام والطمأنينة سفراء الأزهر والرهبان ـ الفرنسيسكان" أن معيار الإسلام فى السلم والسلام أو الحرب ليس (الإيمان) أو (الكفر) ولا (الاتفاق) أو (الاختلاف) وإنما هو التعايش السلمى بين الآخرين وبين المسلمين، واحترام إنسانية الإنسان؛ لأن اللهَ تعالى هو الذى خلقه وأرسل الرسل لهدايته وبيانِ دورهِ فى إعمار الكون ودعمِ السلامِ والاستقرارِ والرحمة والمحبةِ، ولقد طبق المسلمون هذا المعيار فى العلاقات مع المخالفين.
وأوضح الأمين العام أن الإسلام قرر الحرية الدينية التى تحترم إنسانية الإنسان وعقله الذى ميزه الله به، ولم يكن الهدف أو المغزى للفتوحاتِ العربية نشر الدين الإسلامى، وإنما بسط سلطان الله فى أرضه، فكان للنصرانى أن يظل نصرانيًا ولليهودى أن يظل يهوديًا، كما كانوا من قبل، ولم يمنعهم أحدٌ أن يؤدوا شعائر دينهم، وما كان الإسلامُ يبيحُ لأحد أن يفعل ذلك، ولم يكن أحدٌ ليُنزِل أذى أو ضــررًا بأحبارهــم أو قساوســتهم ومراجعــهم، وبِيِعهم وصوامعهم وكنائسهم.
وأشار عفيفى إلى أن السنة النبوية أيضا أكدت على حرمة دماء غير المسلمين وكان النبى ﷺ يحضُر ولائمَ أهل الكتاب، ويغشى مجاَلَسهم ويواسيهم فى مصائبهم، ويعاملهم بكل أنواع المعاملات التى يتبادلها المجتمعون فى مجتمع، فقد كان يقترض منهم نقودًا ويرهنهم متاعًا، ولم يكن ذلك عجزًا من أصحابه عن إقراضه، فإن بعضهم كان ثريًا، وكلهم يتلهف على أن يقرض رسول الله، بل كان يفعل ذلك تعليمًا للأمة، وتثبيتًا عمليًا لما يدعو إليه من سلام ووئام.
ولفت عفيفى إلى أن الإسلام بتعاليمه السمحة يُرسِّخُ لثقافة التعايش السلمى فى ظل التعددية الدينية، فلقد اتسع المجتمع الإسلامى على عهد رسول الله ﷺ ومن بعده على مر العصور الإسلامية لجميع الأديان، وكفل عمليًا حرية الإنسان غير المسلم فى ممارسة شعائر دينه، وليس ذلك فحسب، بل عمَّق الصلات الاجتماعية والثقافية والفكرية وغير ذلك بين المسلمين وأهل الكتاب من النصارى واليهود وأرباب الملل الأخرى ليتعايش الناس فى سلام وأمان.
وتابع قائلا إن الإسلام دعا إلى إقامة العلاقات الإنسانية على أسس من الحب والبر والعدل، ونشر السلام العالمي؛ ليكون دُعامة فى العلاقات الدولية، حيث عنى الإسلام بكرامة الفرد؛ لأنه لبنةٌ فى البناء الإنساني؛ وذلك ليكون عضوا مؤسسًا فى العلاقات الإنسانية، فتكريم الإنسان فى الإسلام لا يعتمد على دينه أو مذهبه أو فكره أو قوميته بل يعتمد على إنسانية الإنسان فى مواجهة كافة المعايير التى يُعوِّل عليها الناس فى نظرتهم للأفراد.
وبين الأمين العام أن التزاوج الحضارى بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخرى شاهد على سعة أفق وعمق فهم المسلمين للإسلام، مما جعلهم ينفتحون انفتاحًا واعيًا ومستوعبًا للموروثات الحضارية السابقة مما يدلُ على معالم السماحة والسلام وقبول الآخر واحترامه فى المنظور الإسلامى.
وقال إننا حين ننظر إلى واقع السلام فى ظل النظام الدولى القائم، نجد أننا نمر بفترة عصبية من فترات التاريخ الإنساني؛ نظرًا لانتشار الحروب وما نتج عنها من قتلٍ وسفكٍ للدماء، وضحايا من الرجال والنساء والأطفال، وملايين اللاجئين الذين لا مأوى لهم، وأصبحت الحاجةُ ملحةً وضروريةً لوضع حلول عملية لهذه الأوضاع، مشيرا إلى أن الحوارَ قد أصبح أكثر إلحاحًا من أى وقت مضى، بل أصبح ضرورةً من ضرورات العصر، ليس فقط على مستوى الأفراد والجماعات، وإنما على مستوى العلاقات بين الأمم والشعوب المختلفة، من خلال الرغبة فى العيش المشترك والتسامح حول الأُمور المختلف فيها، وقبولٌ من الطرفين بالتعددية العقائدية. ولا يكفى أن يؤمن بالتعايش والتسامح طرفٌ واحد بينما الطرف الآخر ينكر ذلك.
واستطرد قائلا: إن الحياة المشتركة مع الآخرين تحتاج من جميع الأطراف أن يقبلوا التعايش مع التزام العدل والمساواة والسماحة والاحترام المتبادل، وليس من التسامح فى شيء أن نقف موقف المتفرج حيال القسوة والظلم وغير ذلك مما يتعرض له الناس بصرف النظر عن العرق أو اللون أو العقيدة.
وأكد الأمين العام أن تحقيق السلام فى عالمنا المعاصر يحتاج إلى معالجة واقعية وعملية لمشاكل الشعوب الفقيرة وإلى مواجهة حقيقية للإرهاب وجماعاته التى تمارس الإرهاب والقتل باسم الدين وتستهدف أمن واستقرار المجتمعات من خلال رعاية دول تُسخِّر أموالها وأنظمتها لتمويل العمليات الإرهابية. وهذا يؤكد على أهمية التعاون بين القادة الدينيين لدعم قيم التسامح والسلام بين الشعوب المختلفة.
اللقاء يأتى فى إطار التعاون وإحياء لذكرى اللقاء الذى تم فى مدينة دمياط عام 616هجرياً الموافق 1219 ميلادياً بين القديس فرنسيس الأسيزى – مؤسس الرهبنة الفرنسيسكانية الكالثولوكية وخامس سلاطين الدولة الأيوبية "الكامل اليوبي"، والتى تعد أحد ركائز حوار السلام ونشر الطمأنينة بين الشعوب وهو ماترتب عليه تواجد الفرنسيسكان فى مدينة القدس والتواجد فى مصر والشرق الأوسط.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة