فى عمق إثيوبيا، وفى قلب الجبال وعلى بعد نحو 645 كيلو متر من أديس أبابا، يقترب الواقع من الخيال، ويمتد النظر من بعيد إلى صليب تحسبه رسمًا على الأرض، إلا أنه ليس إلا نحت لسقف كنيسة سان جورج من بين كنائس "لاليبيلا" التى ينسب بناؤها للملك لاليبيلا التى قرر نحتها من رحم الصخور بقلب الجبل، بهدف إنشاء مدينة مقدسة لتكون أورشليم جديدة، يأتى إليها مسيحيو العالم من كل مكان للحج فيها.
وبسبب استحالة البناء المؤسس بشكل دقيق وتقنى وبمواصفات هندسية فريدة ومراعية للأحوال الجوية والفيضانات، رغم قدم عهده المبنى فى العصور الوسطى، التى لم يكن فيه التقنيات الحديثة التى تساعد على الحفر والإنشاء بهذه الطريقة، وأشيع أن هذه الكنائس بناها "الجن" لاستحالة البناء فى ذلك الزمن، دون استخدام أى مادة للبناء .
وفى زيارته لإثيوبيا، تفقَّد إيمانويل ماكرون، الرئيس الفرنسى، هذه الكنائس المنحوتة، والتى لَطالما حيّرت العلماء لعقود، وألمح باتفاق فرنسى إثيوبى، حول نظام جديد لحماية الآثار المهددة بفعل النحت والتآكل، فى بادرة دبلوماسية ثقافية.
وعمر هذه المبانى غير معروفة، ولكن الروايات المحلية والمتناقلة عنها تذكر أن حفرها تم فى عهد الملك لاليبيلا، الذى حكم إثيوبيا فى بدايات القرن الثالث عشر. لكن علماء الآثار الإفريقية والكنائس يعتقدون أن تلك المعابد حفرت فى الصخور قبل ذلك بعدة قرون وأن اسم "لاليبيلا" ترافق معها بعد وفاته، وأطلق على اسم البلدة التى تحمل اسم الملك.
فيما تقول الروايات الأخرى أن ملك لاليبيلا شرع فى بناء رمز للأرض المقدّسة، عندما أصبحت الحجّة مستحيلة إلى القدس وبيت لحم، وأصبح هناك نسخ طبق الأصل من قبر المسيح وآدم وأسرة المهد.
الكثير من الأساطير والحكايات الوهمية، رويت عن هذه الكنيسة، بداية من أن الشياطين من قاموا ببنائها إلى رواية أخرى تحكى عن طفل يدعى "لاليبيلا"، اكتشفت والدته سربًا من النحل حوله، والنحل فى الأساطير المحلية ينقل الإنسان إلى المستقبل، وقد نقل الطفل ليرى أنه أصبح ملكا للقدس فى المستقبل، وانتصر على أشقائه الذين حاولوا قتله بالسم، ثم اعتلى عرش القدس، ثم عاد قائدا جمعا من الأرواح إلى لاليبيلا ساعدوه فى بناء الكنيسة بشكلها الحالى.
كما يقال إنه تم بناء الكنيسة فى سرعة مذهلة، وحتى يومنا هذا يعتقد الناس فى هذه الرواية التى تشير إلى أن الملائكة جاءت فى الليل، وساعدت على إنجاز البناء.
كل هذه الأساطير تصطدم بها فى الحقيقة حين تفكر دخولها، وتبدأ النزول 12 متر تقريبًا على سلالم محفورة فى الجبل، لتستقبل أمامك بوابة مزخرفة بأيدى فنانين مبدعين، تسمع من ورائها همسات المصلين ودعوات الباكين، حيث استمر الكنسيون الإثيوبيون بالمحافظة على أماكن العبادة بها، وخاصة "تابوت العهد" الموجود فى كنيسة القديسة مريم والتى تحتفظ بالنسخة الأصلية منه، ويأتى إليها الآف الحجاج سنويًا، ولكن يتم منع السياح من الاقتراب، وفقًا لما ذكرة موقع منظمة اليونسكو.
وتقام معظم المراسم الاحتفالية الدينية باللغة "الجعزية" التى أصبحت لغة رسمية للكنيسة على أقرب تقدير بعد هروب نحو 9 قديسين من بطش الإمبراطور البيزنطي بسبب رفضهم لمقررات مجمع خلقيدونية عام 451، وتوجد ترجمة للنسخة السبعينية لكتاب العهد القديم، ترجم من اللغة اليونانية إلى اللغة الجعزية، وكان الإمبراطور هيلا سيلاسى خلال فترة حكمه قد رعى عملية إصدار نسخ رسمية باللغة الأمهرية لمخطوطات قديمة مكتوبة باللغة الجعزية. ويتم الوعظ اليوم في كنيسة التوحيد الإثيوبية باللغات المحلية.
وذكر موقع منظمة "اليونسكو" أنه لم يتم بناء الكنائس بطريقة تقليدية ، بل كانت منقوشة من الصخور الحية للكتل المتجانسة، و تم إزاحة هذه الكتل بشكل أكبر وتشكيل الأبواب والنوافذ والأعمدة والطوابق المختلفة والسقوف وما إلى ذلك، وقد تم الانتهاء من هذا العمل الضخم من خلال نظام واسع من خنادق الصرف الصحي والخنادق والممرات الاحتفالية، وبعضها به فتحات للكهوف وسراديب الموتى.
وبالقرب من الكنائس ، تضم قرية لاليبيلا منزلين دائريين من طابقين ، مبنيين من الحجر الأحمر المحلى ، و هذه الكنائس الاستثنائية كانت محور الحج للمسيحيين الأقباط منذ القرن الثانى عشر.
وقد اعتمدت منظمة "اليونسكو" كنيسة سان جورج ضمن التراث العالمى والتى يرجع تاريخ إنشائها فى القرن الثانى عشر الميلادى، ولاتزال ثابتة لا تذروها الرياح.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة