كانت الساعة الخامسة مساء يوم 27 إبريل - مثل هذا اليوم 1934، حين أقام شباب الوفد حفلا لتكريم الكاتب والمفكر عباس محمود العقاد بمناسبة وضعه النشيد القومى، فشهد الحفل مبايعة الدكتور طه حسين عميد الأدب العربى للعقاد أميرا للشعر، مما أثار جدلا كبيرا.
تذكر «الأهرام» فى عددها يوم 28 إبريل 1934: «بدأ المشتركون فى التكريم يتوافدون على تياترو حديقة الأزبكية منذ الساعة الرابعة، وحضر دولة الرئيس الجليل مصطفى النحاس باشا، رئيس الوفد»، وتقدمت الآنسة ميمى كرارة، فأهدت لدولة الرئيس وردة بيضاء وللأستاذ العقاد باقة من الورد الأبيض نيابة عن سيدات أسوان، ثم بدأت الحفلة بآيات من القرآن الكريم، ثم أنشد فريق من الشبان النشيد القومى: «قد رفعنا العلم للعلا/والفدا فى عنان السماء/ حى أرض الهرم/ حى مهدى الهدى حى أم البقاء/ كم بنت للبنين مصر/ أم البناة من عرق الجدود/ أمة الخالدين من يهبها الحياة/ وهبته الخلود».
حاز الشاعر أحمد شوقى على لقب «أمير الشعراء» فى نهاية إبريل 1927 خلال مؤتمر حاشد استمر لأيام، وحضره وفود من الأقطار العربية، وفيما قاطعه العقاد وهاجمه، كان طه حسين ممن شاركوا فيه بمحاضرة.. يذكر نجيب محفوظ فى صفحات من مذكراته للكاتب والناقد رجاء النقاش: «موقف العقاد من شوقى يتضمن كثيرا من التجنى والظلم الفادح، وسمعت أن شوقى، رغم ذلك - صمم على حضور العقاد مهرجان تتويجه أميرا للشعراء، وذهب إليه ودعاه، وقال له، إن الحفلة لن تتم بغير حضورك، وأخذ يكيل المدح للعقاد الذى تركه وخرج دون أن ينطق بكلمة ولم يحضر العقاد الاحتفال».
توفى «شوقى» يوم 14 أكتوبر 1932، وأصبح الشعر بلا أمير، حتى أعلنها طه حسين فى كلمته أثناء مؤتمر 27 إبريل 1934 الذى ألقى فيه طه حسين بمفاجأته، ويذكر أنور الجندى فى كتابه «المعارك الأدبية» فى مصر من 1914 إلى 1939» نص كلمة عميد الأدب العربى، وكانت: «تستطيعون أيها السادة أن تحبوا العقاد ما وسعكم الحب فلن توفوه حقه، ذلك لأن العقاد هو الصورة الناطقة واللسان الخالد والمرآة الصافية المجلوة التى حفظت صورة مصر الناهضة وأبقتها ذخرا للأجيال المقبلة، أما أنا أيها السادة فسعيدا جدا بهذه الفرصة التى أتيحت لى ،ومكنتنى أن أقول إننى لا أومن فى هذا العصر الحديث بشاعر عربى، كما أومن بالعقاد، تسألوننى لماذا أومن بالعقاد فى الشعر الحديث، وأومن به وحده وجوابى يسير جدا، لماذ؟ لأننى أجد عند العقاد ما لا أجده عند غيره من الشعراء، لأننى حين أسمع شعر العقاد أو حين أخلو إلى شعر العقاد فإننى أسمع نفسى أو أخلو إلى نفسى، إنما أرى صورة قلب، وصورة قلب الجيل الذى نعيش فيه، لأن العقاد ليس مقلدا، ولا يستطيع أن يكون مقلدا، ولو حاول التقليد لفسدت شخصيته وشخصية العقاد فوق الفساد .
يعجبنى العقاد، لأنه يلتمس موضوعاته، حيث لم يستطع شعراء العرب أن يلتمسوا موضوعاتهم، لأننا نحن الأساتذة أعلم بالعقاد من العقاد، أعترف أننى عندما قرأت القصيدة «ترجمة شيطان» وقرأتها فكرت فى شعراء آخرين ليسوا عندنا ولاهم بين شعرائنا، ولكنهم يعيشون فى أوروبا، فكرت فى بول فاليرى، وفكرت فى ملتون، كنا أيها السادة نشفق على الشعر العربى، وكنا نخاف عليه أن يرتحل سلطانه من مصر،وكنا نتحدث عن علم الشعر العربى المصرى، أين يكون ومن يرفعه للشعراء والأدباء ليستظلون به؟.
كنا نسأل هذا السؤال، وكنت أنا أسأل هذا السؤال، لماذا؟ لأننى كنت أرى هذه المكانة العظيمة التى اكتسبها شوقى وحافظ رحمهما الله، وكنت أرى شعر العقاد على علو مكانته وجلال خطره شعرا خاصا مقصورا على المثقفين والمترفين فى الأدب، وكنت أسأل هل آن للشعر العربى القديم المحافظ المسرف فى المحافظة أن يستقر وأن يحتفظ بمجده، وهل آن للشعر الجديد الذى يصور مجد العرب وأمل المصريين أن ينشط ويقوى.انتظرت فلم أجد للمقلدين حركة أو نشاطا فإذا المدرسة القديمة قد ماتت بموت شوقى وحافظ، وإذا المدرسة الجديدة قد أخذت تؤدى حقها، وتنهض بواجبها فترضى المصريين والعرب جميعا، وإذا الشعر الجديد يفرض نفسه على العرب فرضا، وإذا الشعور المصرى والقلب المصرى والعواطف المصرية أصبحت لا ترضى أن تصور كما يصورها حافظ إبراهيم، وإنما تريد وتأبى إلا أن تصور تصويرا جديدا، هذا التصوير الذى ترونه فى العقاد الذى حمل هؤلاء الملايين على إكبار العقاد، كما قال أحد الخطباء، إذن لا بأس على الشعر العربى والأدب العربى وعلى مكانة مصر فى الشعر والأدب.
اختتم طه حسين كلمته قائلا: «ضعوا لواء الشعر فى يد العقاد، وقولوا للأدبا والشعراء: اسرعوا واستظلوا بهذا اللواء فقد رفعه لكم صاحبه»، وانتهى الاحتفال، لكن ما فعله طه حسين فتح النار عليه، فكيف حدث ذلك؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة