فى مكتبه بمقر السنودس الإنجيلى، كان القس إكرام لمعى يستعد لبدء يومه الطويل بقراءة صحف الصباح، ومتابعة بعض الأعمال الإدارية هنا وهناك، حين طرقت بابه لنبدأ حوارنا قبل عيد القيامة المجيد.
ولم يشكل الحوار مع المفكر الإنجيلى أية مفاجأة لى على المستوى الشخصى، قد سبق وقال الكثير من أفكاره فى كتابين شهيرين أبرزهما «الاختراق الصهيونى للمسيحية» و«المسيحيون بين الوطن والمقدس»، وربما كانت المفاجأة هى الانتقادات التى وجهها لكنيسته التى رأى أن التيار الرجعى أصبح يسيطر عليها رغم أنها كنيسة مصلحة من بنات أفكار مارتن لوثر وثورته الإصلاحية.
وتطلب الحوار مع الدكتور إكرام لمعى الكثير من الجهد والتنقل بين صفحات الكتب حتى ينجو الصحفى من فخ الانبهار بأفكار الضيف وهو فخ ينصبه لمعى لكل من يقرر أن يسأله بتلك الابتسامة الهادئة ونبرة الصوت الواثقة دون غضب مفتعل.
وإلى نص الحوار:
كيف تقيم المشهد فى علاقة الكنيسة بالدولة حاليا؟
أرى أن هذا العصر هو أفضل عصور علاقة الكنيسة بالدولة لعدة أسباب، أهمها موقف المسيحيين من ثورة يناير، وموقفهم من حكم مرسى وقد كان لهم موقف واضح ورفضت وقتها أن ألبى دعوة مرشد الإخوان فى هذا العام وحدثت مشكلة حقيقية بينى وبينهم، أما حاليا فالسيسى بدأ يعايد على المسيحيين فى العيد وهو رمز وكذلك أخذ قرار بناء 70 كنيسة دمرها الإخوان وكسر قرارات كثيرة مثل الخط الهمايونى لبناء الكنائس، فهو أفضل عصر للمسيحيين مقارنة بالعصور السابقة، ونتمنى أن تنشط الأحزاب وأن نعود لأيام ثورة 1919 حين كان المسيحيون فاعلين فى الحياة السياسية مثل ويصا واصف ومكرم عبيد وهذا الجو من الحريات والتعبير عن النفس وللأقليات بشكل عام لأن البلاد التى تحقق ذلك مثل تونس ليس لديهم تاريخ مثلنا ولكنهم يقفزون فوقنا وهو ما يصيبنى بالذهول والفرح.
ماذا تعنى بعقدة الأقلية التى ذكرتها فى كتابك؟
عقدة الأقلية تحكم علاقة المسيحى فى بعض المواقف التى يصطدم فيها المسيحى مع الدولة، وليس كل المسيحيين يفعلون ذلك، الناجحون لا يفعلون، المسيحيون لا يفضلون الانخراط فى الأعمال الحكومية ويفضلون الأعمال الحرة، هم يتمتعون بنفوذ وهذا النفوذ فى الدولة نفسها وحرية أيضا، والأقليات يفضلون الأعمال الحرة بينما الغالبية العظمى لا تستطيع أن تنخرط فى الأعمال الحرة، ومن ثم 80% من المسيحيين متوسطى الحال أو فقراء يشعرون بضغوط الأكثرية والحكومة ومن هنا تنشأ العقدة، «مفيش منفذ هيعملوا إيه»، فيلجئون للهجرة.
على ذكر الهجرة.. هل ترى أن هجرات المسيحيين من مصر أفادتهم؟
كتبت فى الكتاب عن خرافات المسيحيين من بينها أن أمريكا تحميهم، أو أن الهجرة أفضل بالنسبة لهم لأن الغرب فيه بلاد مسيحية وسيصبحون أكثر حرية وما يحدث عكس ذلك تماما لأنهم قادمون من العالم الثالث وملونين وكل الملونين مضطهدين بقسوة أما الخرافة الثالثة فهى إمكانية اتحادهم مع المسيحيين فى باقى الدول «ويتحاموا فى بعض»، ومن ثم الأقلية دائما لديها عقد وتتعلق بـ«أحبال دايبة»، لكن ليس هناك أى أسباب دينية للهجرة ولكنهم يلجأون لجوءا دينيا ويكذبون ويكتبون افتراءات حتى تصدقهم حكومات تلك الدول وتمنحهم حق اللجوء.
تأسيسا على كلامك، هل تعطى العلاقة الجيدة مع الدولة فرصة لتقليل هجرات المسيحيين بل إنها أصبحت ثقافة لدى المسيحيين؟
أصبحت جزءا من الثقافة والأحلام، والأقلية فى أية بلد تطلع لذلك أكثر وتبذل مجهودا أكبر فى ملف الهجرة، فكل الأقليات يحلمون بترك بلادهم رغم أنى لم أقابل أى مهاجر لم يندم حتى وإن وصل لثراء فاحش هناك خاصة الجيل الأول الذى يعانى معاناة شديدة لأنه لا يندمج مع الحضارة الغربية خاصة إذا تزوج أجنبية فنسبة الطلاق لديهم عالية جدا والخلاف بينهم وبين أولادهم من الجيل الثانى رهيب جدا وما أسمعه من أبناء المهاجرين يوضح أن الكبار مازالوا متمسكين باللحظة التى هاجروا فيها، فرأيت مصريا هاجر فى الستينيات مازال متوقفا عند الستينيات بانغلاق شديد ما يحدث بالضبط إذا دخلت بيت المصرى هناك تشمين رائحة الملوخية والكشك والتليفزيون فيه فريد شوقى وعادل إمام ويقاطعون التليفزيون الأمريكى لأنهم لا يتقنون الإنجليزية 100% فهم منفصلون تماما عن الحضارة والمجتمع ويسبب مشكلة هوية كبيرة لأولاده، كما أن الكنيسة تلعب دورا هناك.
هل ترى أن الكنائس فى المهجر تلعب دورا سلبيا فى عدم اندماج المهاجرين؟
بكل تأكيد هى تحاول أن تغلق على أولادها ولا تدرك أنها تمنعهم من فرص الانخراط فى الحضارة الغربية، الكنيسة لا تريدهم خارج إطار الكنيسة ولدينا المشكلة أقل كإنجيليين لأن غالبية أمريكا كنائس مصلحة فما يسمعه المهاجر فى الكنائس الأمريكية يسمعه فى كنيستنا العربية ولكن الأرثوذكس يظنون أن كنيستهم هى الكنيسة الصح، ولكن من الناحية المالية فقد نجحت كنائس المهجر فى جمع تبرعات لأقباط الداخل ولكن من الناحية الثقافية فشلوا بشكل واضح لأنها تعيق المهاجرين من الاندماج باعتباره رجس من عمل الشيطان.إلى أى مدى ترى أن النوادى الكنسية والحضانات وغيرها أثرت على علاقة المسيحى بالمجتمع؟
كان لها أثر قاتل على تلك العلاقة، الطفل يولد يدخل حضانة الكنيسة ثم مدارس الكنيسة وملاعب الكنيسة وحتى فى الجامعة يتجمعون معا فى أسر جامعية مسيحية وشجرة يجلس تحتها المسيحيون فى كل الجامعات وهى مأساة حقيقية لأقلية تعيش بمثل هذه الظروف.ألا ترى أن تلك الظروف انتهت بانتهاء هذا العصر فلماذا مازالت آثاره قائمة؟
مازالت هذه الآثار قائمة لكن ثورة 25 يناير غيرت الوضع، معظم الكنائس ثارت على النظام نفسه وخاصة على نظام الأسوار الكنسية وتلك السلطة التى تمثلها مثل ما فعله الشهيد مينا دانيال، وكنيسة قصر الدوبارة خلقت حالة وفتحت عيادتها وكان المسلمون والأقباط يصلون متجاورين وهكذا.من الكنيسة ننتقل للاهوت.. إلى أى مدى ترى أن الفكر اللاهوتى العربى مازال متأثرا بالعهد القديم وبالعقائد اليهودية؟
المشكلة فى العهد القديم أننا نؤمن بالعهدين معا ولكن العهد القديم هو تحضير للعهد المجيد وللأسف هناك الكثير من ممارسات العهد القديم والطقوس أخذتها الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية بحكم قربهما زمنيا من العهد القديم ولكن الإنجيليين باعتبارهم من إنتاج القرن السادس عشر فلم يتأثروا بتلك الأفكار اليهودية
ألا تلاحظ أن تصورات الكنائس التقليدية عن المرأة قريبة أيضا من الفكر اليهودى؟
بكل تأكيد، الرسل مثلا لم يتحدثوا أبدا عن عدم جواز تناول المرأة أثناء الحيض، وما قاله بولس الرسول هو أن المرأة تغطى شعرها وقد كان ذلك له ظروف معينة فى كنيسة معينة لا يمكن أن تعمم على الناس، بولس قال للنساء تغطى شعورهن فى الكنائس لأن اليهود كانوا يعتقدون أن الملائكة تحضر العبادة فى الكنائس ومن الممكن أن تتعثر تلك الملائكة إذا رأت المرأة وهى أفكار ليست مسيحية نهائيا، وبطرس مثلا يحرم ضفر الشعر ولبس الثياب غالية الثمن والذهب، لأن الرومان كان لديهم عبادة تسمى أرطاميس آلهة الجنس التى تضفر شعرها وترتدى ثيابا غالية الثمن فكان الرومان لديهم سياحة جنسية لآلهة أرطاميس وحين قال بطرس ذلك نبه النساء المسيحيات حتى لا يظن الناس أنهم من هؤلاء كأن أقول لنساء الكنيسة «متلبسوش ملابس ستات شارع الهرم»، وهو ما لا يمكن تعميمه.من هنا فإن المسيح أيضا لم يكن لديه موقف من رسامة المرأة كاهنة إنما هى ظروف عصره؟
بلا شك المسيح لم يختر سيدات من تلاميذه لظروف عصره، لكن النساء كن يتحركن مع المسيح فى البلاد وينفقن عليه من أموالهن وهو ما ذكره الكتاب المقدس فالمسيح وافق على أن السيدات ينفقن عليه ويخدمنه وأهم رسالة فى الكتاب المقدس «رسالة القيامة» حين قابل مريم المجدلية عند القبر «اذهبى وقولى لإخوتى إننى قمت من بين الأموات» وهى أعظم رسالة فى الإنجيل ائتمن عليها امرأة.إذن الحجج التى يثيرها التقليديون ضد رسامة المرأة قسيسة لا أساس لها فى المسيحية؟
بكل تأكيد وهو ما نسميه التفسير الشرقى للعهد القديم، أو تحميل النص فوق ما يحتملهما الذى يمنع الإنجيليون المصريون من رسامة المرأة؟
لأن هناك ردة فى الكنيسة الإنجيلية المصرية بسبب انفتاح الكنائس الغربية التى ترسم المثليين مثلا، فيقول الإنجيليون المصريون إن السماح برسامة المرأة قسيسة تعنى قبول رسامة المثليين وهو عذر أقبح من ذنب فهم يتحدثون عن أشياء غير واقعية، الكنيسة الإنجيلية من 40 سنة كانت متطورة جدا وأيام ثورة 1919 كنا متحضرين وتقدميين وكانت الطوائف تحسد الإنجيليات على دورهن فى كنيستنا مثل ايستر ويصا المرأة الثانية بعد هدى شعراوى فقد كانت إنجيلية أما ما يجرى حاليا فهو ردة حضارية بلا شك.الكنيسة الإنجيلية تهتم بتثقيف القساوسة وابتعاثهم ولكن هذا ليس له أثر على الشعب فلم هذه الفجوة؟
تعليم القساوسة لم يعد مثل عمق الماضى، وظهرت حركات فى الكنيسة ترى أن العبادة هى تصفيق وتعزية وموسيقى صاخبة والعظات الأكثر سطحية هى ما يحبها الناس لأن الناس مسطحون، فى البداية كان المستمع يطلب عظة رصينة أما الآن فلا أحد يستمع للعظات الرصينة ويتهموننا بالتعقيد، بل يميلون للكلام عن العواطف والمشاعر وهؤلاء من تزدحم كنائسهم.ولماذا تتمسك بالأمل إذن؟
لأن هناك تيارا من شباب الكنيسة انقطعوا عن الكنيسة لأنهم رأوا أن تلك العبادات مليئة بالطقوس ولكنهم لم يتركوا الكنيسة تماما ويعقدون حلقات نقاشية داخل الكنائس وأنا سعيد جدا بهم لأنهم يبدأون إيمانهم من العقل، وهذا الجيل تثقف جدا وأرى أن الـ«فيس بوك» أتاح لهم فرصة للثقافة بشكل واسع جدا.ولكن لماذا يكره رجال الدين الـ«فيس بوك»؟
لأن هناك حوارا ساخنا بين الناس ونقدا واضحا لبعض العقائد، وهم اعتادوا أنهم رجال دين لا مساس بهم ولا بأفكارهم وما يطرحونه، ولكن الـ«فيس بوك» يهدد سلطتهم، وبالطبع هناك تدنٍ فى اللغة لدى بعض غير المثقفين وغير المؤدبين ولكننا ندخل تحديا كبيرا ونقاشات هامة.ألا ترى أن تلك الظروف كسرت هيبة رجال الدين؟
لم تعد لهم السلطة القديمة مطلقا، وحين تتحدثين مع أى رجال دين يقولون لك «محدش يقدر يحكم على الشباب، زمان كانوا يقولوا حللنى يا أبونا» لكن هذا الكلام انتهى فمن يظن أن هذا العصر مستمر يعيش فى الوهم، فإن لم يثبت القس عمقه الفكرى وثقافته لن يحترمه أحد.نختتم حوارنا، وسط كل تلك الظروف ماذا تعنى القيامة؟
نحتاج القيامة من بين الأموات فى كل المجالات السياسية والاقتصادية والأخلاقية لنعيش فجرا جديدا ونرفض التعصب والتخلف ونقوم من هذا العصر لعالم جديد.