إن الله يسعد الذين يسعدون قلوب الفقراء والبسطاء، الذين ينظرون إلى أوضاعهم بعين الرحمة، ولا يزيد من أوجاعهم أوجاعا أخرى، يقول الله تعالى فى سورة البقرة: "يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)، وتصديقا لما قاله المسيح: "تصدقوا بما فى وسعكم وكل شىء يكون لكم طاهرا" (لوقا 6/ 3).
ولعل قضايا الفقراء والعدالة الاجتماعية أكثر القضايا التى شغلت بال الكثيرين على مدار التاريخ الحديث، فتبنوا قضايا من شأنها مساعدة الطبقات الأكثر فقرا، لكن الغريب حقا أن معظم من تبنوا هذه القضايا لم يعيشوا الفقر، بل خرجوا من طبقات أرستقراطية وعائلات نبيلة، قبل أن يقرروا بكامل إرادتهم مساعدة هؤلاء، لأنهم رأوا العالم يتجه إلى زيادة أوضاع الفقراء سوءا.. ومن هولاء:
كارل ماركس
كارل ماركس
بالتأكيد الكل يعرف كارل هانريك ماركس، الفيلسوف الألمانى، عالم الاقتصاد الشهير، الذى لعبت أفكاره دورًا مهما فى تأسيس علم الاجتماع وفى تطوير الحركات الاشتراكية، ومثلت فيما بعد أبرز الأفكار التى تتبنى قضايا العدالة الاجتماعية، ومساعدة الفقراء وفئات العمال.
وعلى الرغم من أفكار ماركس الاشتراكية إلا أنه ولد فى عائلة غنية من الطبقة الوسطى فى مدينة ترير فى راينلاند الروسية، درس ماركس فى جامعة بون وجامعة برلين، حيث أصبح مهتمًا بالأفكار الفلسفية للهيجليين الشباب.
وبحسب كتاب "الماركسية الغربية وما بعدها" لعدد من المؤلفين، فالماركسية قامت على أنها لا تنوى ترك البسطاء فى مستوى فلسفة الحكمة الشعبية التى يدينون بها، وإنما تطمح إلى قيادتهم نحو بلورة رؤية شاملة أرقى للعالم.
ويوضح كتاب "مدخل إلى المادية الجدلية" تأليف موريس كورنفورث، أن فلسفة ماركس كانت قامة على فلسفة تخدم الناس البسطاء فى نضالهم للتطويح بكل استغلال، ولبناء مجتمع غير طبقى.
فريدريك إنجلز
فريدريك إنجلز
فيلسوف ورجل صناعة ألمانى يلقب بأبو النظرية الماركسية إلى جانب كارل ماركس، وكان مناضلا عظيما من أجل حقوق الطبقة العاملة، والأفكار الاشتراكية.
ولد إنجلز فى العام 1820 لعائلة ألمانية ثرية، فى وقت يموج بالاضطرابات، انجذب فى شبابه لأفكار الفلسفة الألمانية، خصوصا لتلك التى بلورها جورج هيجل، الذى رأى الكون عملية من التطوير والتغيير المتواصل.
وبحسب دراسة نشرتها وحدة الترجمة بمركز الدراسات الاشتراكية فإن فزع إنجلز جاء من الفقر والبؤس اللذين رآهما فى مانشستر، كان الاكتظاظ رهيبا والمُعدَّل متزايد فى وفيات الأطفال، وانتشار أوبئة الكوليرا والتيفوس من أساسيات الحياة اليومية فى المدينة.
وتشير الدراسة إلى أن بربرية النظام الرأسمالى الناشئ دفعته لتأليف أول كتابٍ له بعنوان "طحال الطبقة العاملة فى إنجلترا"، حيث كَتَبَ بانتقادٍ عنيف عن الطبقة الحاكمة التى "لا تعرف نعيمًا إلا الكسب السريع، ولا ألمًا غير خسران الذهب"، ويوثِّق إنجلز فى هذا الكتاب ليس فقط حال عيش الناس، بل يوضح أيضًا كيف يمكن -وينبغي- تغيير هذا الحال.
تولستوى
تولستوي
الكونت ليف نيكولايافيتش تولستوى، أحد عمالقة الأدب الروسى، وكان واحدا ممن كتبوا عن الفقراء، وتبنوا قضايا العدالة الاجتماعية، مع شعوره بالنزعة الإنسانية العميقة تجاه الفقراء والمعذبين فى الأرض.
لقد صدم تولستوى النبلاء الآخرين بتوجهاته الإنسانية هذه، ولم يفهموا سبب اهتمامه بالفلاحين الجهلة والأغبياء، على حد تعبيرهم، وكانوا يعتقدون أن الله خلق العالم وقسمه إلى قسمين: قسم النبلاء الأشراف المحظوظين، وقسم بقية الشعب من الفلاحين، وهؤلاء ينبغى أن يخدموا النبلاء عن طريق العمل فى الأرض، وأما النبلاء فلا يشتغلون ولا يتعبون لأنهم من جنس وبقية البشر من جنس آخر، بحسب تفسير للكاتب هاشم صالح.
وبحسب سيرة مقتضبة تضمنتها، روايته "مصرع إيفان إيليتش" فإن تولستوى كان ينتمى لطبقة النبلاء فى روسيا، وبقى تولستوى دائما وأبدا واعيا بإرثه الأرستقراطى حتى عندما تقدم فى السن وبدأ بتدريس تعاليم المسيحية وأخوية البشر.
وبسبب معتقداته السلمية وتبينه الحكمة، كل ذلك أثر سلبيا على علاقته بزوجه، حيث أصبحت حياتهما يشوبها الكثير من المشاكل، لرفضها القضايا التى يتبناها فى كتاباته.
توماس بيكيتى
توماس بيكيتى
صاحب كتاب رأس المال فى القرن الـ21، والذى أثار ضجة كبيرة فى الأوساط الأكاديمية والبحثية العالمية، خلال السنوات الماضية، والذى قدم فيها إحصاءات توزيع الثروة وعدم المساواة فى 26 دولة حول العالم عبر 3 قرون كاملة عكس من خلالها قضية عدم المساواة وتطورها من القرن الثامن عشر حتى الآن، وخلص إلى أن السوق الحرة حتى فى أوروبا لن تصل فى النهاية إلى تقليص المسافات بين الأغنياء والفقراء، ولن تحقق حلم الثراء للمليارات من الفقراء ومحدودى الدخل حول العالم ما لم يتم البحث عن آليات ووسائل جديدة.
يبقى أن نشير أن صاحب الكتاب الذى جاء ليفضح سياسات الطبقات الغنية والدولة الرأس مالية، ولد من عائلة مرموقة، كان والداه ناشطين فى الجريدة الأسبوعية للنضال العمالى، قبل أن يعتزلا الحياة السياسية.
الأميرة فاطمة إسماعيل
الأميرة فاطمة إسماعيل
ولدت الأميرة فاطمة إسماعيل فى يونيو 1853، وهى واحدة من بنات الخديوى إسماعيل من زوجته شهرت فزا هانم، تفردت بحبها العام للخير ومساهمتها فى الأعمال الخيرية بين أخواتها.
وبحسب ما يذكره الكاتب محمد فوزى المناوى، فى كتابه "جامعة القاهرة فى عيدها المئوى" فإن الأميرة فاطمة إسماعيل تركت الموعظة الحسنة، بعدما تركت الثراء والمتاع، وجادت بما لديها فى وجوه الخير، ويكفى أنها تبرعت بأرضها من أجل إنشاء أول جامعة أهلية فى مصر (جامعة القاهرة).
كما يذكر الكاتب إبراهيم البيومى غانم، فى كتابه "تجديد الوعى بنظام الوقف الإسلامى"، أن الأميرة الراحلة قامت بعمل أوقاف خيرية كثيرة، من بينها مدرسة أبناء وبنات الفقراء، على أن تحصل من تزوجت من التلميذات على ريع من الحصة المخصصة للوقف، وهى عشرون جنيها مصريا، مساعدة لها فى مهرها.
هنرى كورييل
هنرى كورييل
واحد من أبرز أعضاء الحركة الشيوعية المصرية، وكان ناشطاً، أسس منظمة شيوعية فى مصر وأحد مؤسسى الحزب الشيوعى المصري، ساهم فى دعم عدة حركات تحررية.
ولد هنرى كورييل فى 13 سبتمبر عام 1914، لعائلة فرنكوفونية يهودية من أصول إيطالية استقرت فى مصر، تبنى قضايا التحرر والعدالة الاجتماعية بعدما رأى الممارسات التى كانت تمارس بحق فقراء مصر فى مصانع ومزارع البشوات والأغوات والرأسماليين الصاعدين والذين كان والده ينتمى إليهم، حتى إنه صلاته مع أبناء البرجوازية المدللين من زملاء الدراسة ليصبح مناهضاً للاستعمار، وذلك بحسب تقرير لوكالة "مونت كارلو الدولية".
عام 1943 شكل كورييل "الحركة المصرية للتحرر الوطني" (حمتو) والتى دخلت على الفور فى منافسة حامية مع التنظيمات الشيوعية السائدة، والتى تبنت قضايا مهمة منها إنهاء الاحتلال البريطاني، خاصة فى ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية متفجرة تمخضت عن عاصفة من الإضرابات العمالية والطلابية بدءاً من عام 1946.
أحمد نبيل الهلالى
أحمد نبيل الهلالى
الهلالى المولود فى أغسطس عام ١٩٢٢ هو ابن آخر رئيس للوزراء فى العهد الملكى، أحمد نجيب الهلالى، ورغم أصوله الأرستقراطية إلا أنه كان معروفاً بانحيازه للعمال وأبناء الطبقة البسيطة، حيث أنفق كل ما كان يمتلكه على قضايا عمال مصر ودفاعه عن الحريات.
كان الهلالى المدافع عن الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية، لذا كان مشهد وقوفه محامياً عن عناصر إسلامية ليس غريباً، رغم أنه أحد أقطاب الحركة الشيوعية فى مصر، ولذا انتخبه المحامون ممثلاً لهم فى مجلس النقابة لشعبيته الكبيرة بينهم.
لقبته القوى الوطنية بمحامى الشعب، وأجمعت كل أطياف العمل السياسى على أنه القديس، حيث وهب نفسه للدفاع عن أبسط حقوق المواطن فحصل على جائزة فتحى رضوان لحقوق الإنسان.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة