بالرغم من قصر عمر الدولة الطولونية فى مصر(254 هـ : 292 هـ) لكنها مازالت باقية إلى اليوم فى العقول والأذهان، وهذا يعود فى المقام إلى قوة مؤسس هذه الدولة "أحمد ابن طولون" وكثرة أعماله المجيدة، ومن أهم هذه الأعمال مسجده القائم بالقرب من مسجد السيدة زينب وبالتحديد فى شارع الصليبة، الذى يدور حوله العديد من الأساطير والحكايات، لكنه فى ذات الوقت يمنحنا مساحة لتأمل الآية الكريمة "وأما ما ينفع الناس يمكث فى الأرض"
ولأنه كان مؤسس دولة، حرص احمد ابن طولون على أن ينشئ عاصمة جديدة لدولته، وقد أسماها القطائع لأنها كانت تضم أجناسا متعددة وطوائف كثيرة، فلم يرد أن يقحم هذه الأعراق المختلفة فى العاصمة القديمة "الفسطاط" ولم يرد أن يخل بالتركيبة السكانية القائمة، وكان من أهم مرتكزات هذه العاصمة هو المسجد الجامع الذى أراد أن يكون مهيبا حصينا، ويظهر هذا فى ضخامة هذا الجامع وتميز مأذنته "الملوية" التى تعد الطراز الوحيد الباقى من هذا الشكل المعمارى العباسي.
"أريد أن أبنى جامعاً من مال حلال إذا غرقت مصر نجا أو احترقت بقى" كلمة قالها أحمد بن طولون، وكأنه كان يستشعر الآية الكريمة "وأما ما ينفع الناس يمكث فى الأرض" وأراد أن يعمر أرضه الجديدة بحجر زاوية غير قابل للاندثار، وكلمة "مال حلال" هذه لابد أن نقف عندها، لأنها ذات دلالة كبيرة، فقد كان الأمراء قبل أحمد ابن طولون يعتمدون على المنشآت القديمة فى بناء منشآتهم الجديدة، وأهم شيء فى هذا الأمر هو الأعمدة الرخامية التى كانت عالية التكلفة، لأن العمود الرخامى لابد أن يقطع من الجبل قطعة واحدة لا شرخ فيه ولا انبعاج، وبالطبع لابد أن يكون نوع الرخام جيد وهو أمر نادر ما كان يوجد فى مصر، ولهذا كان البعض يستسهل هدم الكنائس والمعابد القديمة ليظفر بما تحتويه من أحجار جاهزة وأعمدة مثقلة، وهو أمر نراه كثيرا فى العديد من المشآت الإسلامية، لكن أحمد ابن طولون لم يرد فعل هذا الأمر، فاجتهد مهندسوه من أجل حل هذه المعضلة، فابتكروا البناء بالدعامات الحجرية، المبنية من الطوب وعليها رفعوا، سقف الجامع وحققوا أمنية مؤسسة.
الكلمة الثانية التى يجب أن نتوقف عندها هى "إذا غرقت مصر نجا" فمعروف أن مصر وقتها كانت معرضة لأخطار الفيضان، وفى كل عام كانت الدولة ترفع حالة التأهب القصوى من أجل عبور هذه الأزمة، وقد تحايل أحمد ابن طولون على هذه المعضلة بأن بنى جامعه على ربوه جبل يشكر الذى يقال إنه كان محط سفينة نوح وقت الطوفان الكبير، وبصرف النظر عن حقيقية هذا الأمر فقد أدى اختيار هذا المكان المرتفع إلى النجاة من الطوفان لما يقرب من 1200 عاما.
الكلمة الثالثة التى يجب أن نتوقف عندها هى كلمة "إذا احترقت مصر بقى"، وقد سعى مهندسو أحمد ابن طولون إلى تحقيق هذه الرغبة، ببناء غالبية المسجد بالطوب الآجر، الذى يصنع أساسا من حرق الطفلة، وما كان وسيط صناعته النار لا تحرقه الناس ولا تدمره.
بهذه الشروط الثلاث رسم أحمد بن طولون خطة الخلود لجامعه، وضع التحدى لمهندسيه وكان مهندسوه على قدر المسئولية، اجتهدوا وفكروا وخططوا وابتكروا، فحظوا بالخلود الذى لا ينكره منكر ولا يجحده جاحد، وظل المسجد علامة على الأرض وآية عابرة للأزمان والحق، منذ عام 263 هـجرية وحتى يومنا هذا، إذ يعد أقدم المساجد الإسلامية الباقية على حالها فى مصر إلى اليوم، فمسجد عمر بن العاص الذى يعد أقدم المساجد الإسلامية لم يتبقى منه شيء يعود إلى زمن عمرو بن العاص سوى قطعة الأرض، أما مسجد العسكر الذى بناه العباسيون فقد اندثر تماما، وبقى جامع أحمد ابن طولون شاهدا على عظمة حاكم وبعد رؤيته.