نواصل قصة السيدة مريم عليها السلام مع ملائكة الله، تابعنا فى الحلقة الماضية كيف أن العذراء كانت قلقة خائفة، بعدما علمت أنها تحمل فى داخلها كلمة الله، وكيف حاول الملاك أن يطمئنها، بعدما انتبذت من أهلها مكانا قصيا، فقال لها «فكلى واشربى وقرى عينا»، وفى تفسير الإمام حافظ ابن كثير أن معنى ذلك: طيبى نفسا، ولهذا قال عمرو بن ميمون: ما من شىء خير للنفساء من التمر والرطب، ثم تلا هذه الآية الكريمة، وقال ابن أبى حاتم عن على بن أبى طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكرموا عمتكم النخلة، فإنها خلقت من الطين الذى خلق منه آدم عليه السلام، وليس من الشجر شىء يلقح غيرها»، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أطعموا نساءكم الولد الرطب، فإن لم يكن رطب فتمر، وليس من الشجرة شجرة أكرم على الله من شجرة نزلت تحتها مريم بنت عمران»، هذا حديث منكر جدا.
وقرأ بعضهم قوله: «تساقط» بتشديد السين، وآخرون بتخفيفها، وقرأ أبو نهيك: «تساقط عليك رطبا جنيا» وروى أبو إسحاق عن البراء: أنه قرأها: «تساقط» أى: الجذع. والكل متقارب.
وقوله: «فإما ترين من البشر أحدا» أى: مهما رأيت من أحد، «فقولى إنى نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا»، المراد بهذا القول: الإشارة إليه بذلك، لا أن المراد به القول اللفظى، لئلا ينافى: «فلن أكلم اليوم إنسيا»، قال أنس بن مالك فى قوله: «إنى نذرت للرحمن صوما» أى: صمتا وكذا قال ابن عباس، والضحاك، وفى رواية عن أنس: «صوما وصمتا»، وكذا قال قتادة وغيرهما، والمراد أنهم كانوا إذا صاموا فى شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام، نص على ذلك السدى، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد، وقال أبو إسحاق، عن حارثة قال: كنت عند ابن مسعود، فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الآخر، فقال: ما شأنك؟ قال أصحابه: حلف ألا يكلم الناس اليوم، فقال عبد الله بن مسعود: كلم الناس وسلم عليهم، فإنما تلك امرأة علمت أن أحدا لا يصدقها أنها حملت من غير زوج، يعنى بذلك مريم، عليها السلام، ليكون عذرا لها إذا سئلت، ورواه ابن أبى حاتم، وابن جرير، رحمهما الله.
وقال عبدالرحمن بن زيد: لما قال عيسى لمريم: «ألا تحزنى» قالت: وكيف لا أحزن وأنت معى؟ لا ذات زوج ولا مملوكة، أى شىء عذرى عند الناس؟ يا ليتنى مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا، قال لها عيسى: أنا أكفيك الكلام: «فإما ترين من البشر أحدا فقولى إنى نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا» قال: هذا كله من كلام عيسى لأمه. وكذا قال وهب.
يقول تعالى مخبرا عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك، وألا تكلم أحدا من البشر فإنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها فسلمت لأمر الله - عز وجل - واستسلمت لقضائه، وأخذت ولدها «فأتت به قومها تحمله» فلما رأوها كذلك، أعظموا أمرها واستنكروه جدا، وقالوا: «يا مريم لقد جئت شيئا فريا» أى: أمرا عظيما. قاله مجاهد، وقتادة والسدى، وغير واحد.
وقال ابن أبى حاتم عن نوف البكالى قال: وخرج قومها فى طلبها، وكانت من أهل بيت نبوة وشرف، فلم يحسوا منها شيئا، فرأوا راعى بقر فقالوا: رأيت فتاة كذا وكذا نعتها؟ قال: لا ولكنى رأيت الليلة من بقرى ما لم أره منها قط، قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيتها سجدا نحو هذا الوادى، قال عبد الله بن أبى زياد: وأحفظ عن سيار أنه قال: رأيت نورا ساطعا، فتوجهوا حيث قال لهم، فاستقبلتهم مريم، فلما رأتهم قعدت وحملت ابنها فى حجرها، فجاءوا حتى قاموا عليها، «قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا» أمرا عظيما.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة