لانزال مع قصة السيدة مريم ابنة عمران، عليها السلام، التى لم تصبح وحيدة، فمعها ابنها كلمة الله عيسى ابن مريم، وهى الآن فى موقف صعب، موقف المواجهة مع قومها، فما كانت تخشاه قد حدث، فقد استغرب أهلها ما رأوه وقالوا لها: لقد جئت شيئا فريا.
وأضافوا: «يا أخت هارون»، ومعنى ذلك حسب تفسير الإمام الحافظ ابن كثير: يا شبيهة هارون فى العبادة «ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا» أي: أنت من بيت طيب طاهر، معروف بالصلاح والعبادة والزهادة، فكيف صدر هذا منك؟
قال على بن أبى طلحة، والسدى: قيل لها: «يا أخت هارون»، أى: أخى موسى، وكانت من نسله كما يقال للتميمي: يا أخا تميم، وللمضرى: يا أخا مضر، وقيل: نسبت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون، فكانت تقاس به فى العبادة، والزهادة، وحكى ابن جرير عن بعضهم: أنهم شبهوها برجل فاجر كان فيهم، يقال له: هارون، ورواه ابن أبى حاتم عن سعيد بن جبير.
وأغرب من هذا كله ما رواه ابن أبى حاتم، عن القرظى فى قول الله عز وجل: «يا أخت هارون» قال: هى أخت هارون لأبيه وأمه، وهى أخت موسى أخى هارون التى قصت أثر موسى، «فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون» فى سورة القصص، وهذا القول خطأ محض، فإن الله تعالى قد ذكر فى كتابه أنه قفى بعيسى بعد الرسل، فدل على أنه آخر الأنبياء بعثا وليس بعده إلا محمد صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا ثبت فى الصحيح عند البخارى، عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أنا أولى الناس بابن مريم، إلا أنه ليس بينى وبينه نبى»، ولو كان الأمر كما زعم محمد بن كعب القرظى، لم يكن متأخرا عن الرسل سوى محمد، والذى جرأ القرظى على هذه المقالة ما فى التوراة بعد خروج موسى وبنى إسرائيل من البحر، وإغراق فرعون وقومه، قال: وكانت مريم بنت عمران أخت موسى وهارون النبيين، تضرب بالدف هى والنساء معها يسبحن الله ويشكرنه على ما أنعم به على بنى إسرائيل، فاعتقد القرظى أن هذه هى أم عيسى، وهى هفوة وغلطة شديدة، بل هى باسم هذه، وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم، كما قال الإمام أحمد عن المغيرة بن شعبة قال: بعثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران فقالوا: أرأيت ما تقرءون: «يا أخت هارون»، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال: فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: « ألا أخبرتهم أنهم كانوا يتسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم؟»، انفرد بإخراجه مسلم، والترمذى، والنسائى، من حديث عبدالله بن إدريس، عن أبيه وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث ابن إدريس.
وقال ابن جرير: حدثنى يعقوب، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبى صدقة، عن محمد بن سيرين قال نبئت أن كعبا قال: إن قوله: «يا أخت هارون» ليس بهارون أخى موسى، قال: فقالت له عائشة: كذبت، قال: يا أم المؤمنين، إن كان النبى صلى الله عليه وسلم قاله، فهو أعلم وأخبر، وإلا فإنى أجد بينهما ستمائة سنة. قال: فسكتت وفى هذا التاريخ نظر.
وقال ابن جرير عن قتادة قوله: «يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا»، قال: كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح، ولا يعرفون بالفساد، ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به، وآخرون يعرفون بالفساد ويتوالدون به، وكان هارون مصلحًا محببًا، فى عشيرته، وليس بهارون أخى موسى، ولكنه هارون آخر، قال: وذكر لنا أنه شيع جنازته يوم مات أربعون ألفا كلهم يسمى هارون، من بنى إسرائيل.