لم يحظ كلام الشيخ محمد الغزالى يوم 27 مايو 1962 حول المرأة أمام المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية، الذى يناقش وثيقة الميثاق الوطنى، بقابلية لدى الفنان الشاعر رسام الكاريكاتير صلاح جاهين، فقرر المواجهة وكانت البداية يوم 29 مايو، مثل هذا اليوم، عام 1962، ولم يصمت«الشيخ» فرد أمام المؤتمر لتزداد المعركة اشتعالا، وتتخذ بعدا دينيا وسياسيا عميقا.
كان«جاهين» يتابع ويستمع إلى كلام «الغزالى» عبر شاشة التليفزيون الذى جاء معارضًا لفقرة جاءت فى الميثاق تقول: «إن الآوان قد آن لكى تسقط بقية القيود التى تحول بين المرأة وبين أداء دورها فى المجتمع، وأن تتساوى بالرجل».. كما شاهد «جاهين» واستمع إلى رد جمال عبد الناصرعلى الغزالى، وقرأ متابعات جريدة الأهرام.. «راجع–ذات يوم 27 و28 مايو 2019».
أدى كل ذلك إلى شحن بطارية «جاهين» الإبداعية، ثم تفريغها فى رسم الكاريكاتير الذى خرجت به «الأهرام» يوم 29 مايو 1962، وعنوانه: «هاجم الشيخ محمد الغزالى كل القوانين والأفكار الوافدة من الخارج».. أما الرسم فيشمل على إظهار الغزالى واقفًا على المنصة يلقى كلمته منفعلًا، وعمامته البيضاء تسقط عن رأسه، وتحت الرسم يكتب جاهين تعليقه الساخر: «الشيخ الغزالى: يجب أن نلغى من بلادنا كل القوانين الواردة من الخارج كالقانون المدنى وقانون الجاذبية الأرضية».
يتذكر جاهين فى كلامه للكاتب الصحفى محمد بغدادى المنشور بمجلة روزاليوسف 20 أبريل 2012 بعنوا ن «صلاح جاهين رسام بدرجة مقاتل»: «وجدتها فرصة لأرسم كاريكاتيرا يصور الشيخ الغزالى وعمامته تسقط بحكم قانون الجاذبية الأرضية وهو أصلا قانون مستورد».
حين شاهد «الغزالى» هذا الكاريكاتير غضب بشدة، وفسره بطريقته الخاصة وهو ما يظهر فى كتاب «معالم المشروع الحضارى فى فكر الشيخ محمد الغزالى» للدكتور محمد عمارة، حيث يقول: «ظهرت صحيفة الأهرام وقد صورتنى عارى الرأس، ساقط العمامة على الأرض، لأن قوانين الجاذبية شدتها وفق التطور العلمى، ونظرت إلى الصورة وقد تملكنى الغضب، فإن العمامة ليست لباسًا خاصًا بى، وإنما هى رمز العلماء المسلمين، والرسام الشيوعى «يقصد جاهين» يريد الإيحاء بأن القوانين العلمية ستعصف بالإسلام».. وتابع الغزالى فى إشارة إلى كل مهاجميه من الصحفيين:«يا عجبا أنه عندما كان الملك فاروق يبحث عن الشهوات، كان أولئك المهاجمون لى من رجال الصحافة يشتغلون قوادين للملك الماجن».
وقرر«الغزالى» الرد، على أن يكون رده من على المنبر الذى ألقى فيه كلمته التى أثارت جاهين، وهو ما حدث بالفعل يوم 29 مايو، فرد جاهين يوم 30 مايو بكاريكاتير يسخر فيه من آراء الغزالى فى المرأة والزى الذى ترتديه.. رد الغزالى أوهجومه لم يكتف بجاهين، وإنما طال الأهرام.. قال إنه قصد فى كلمته أمام المؤتمر أن «لايظل الشرق العربى الإسلامى محكوما بقانون فرنسى، ولم يهاجم القوانين العلمية الثابتة كالجاذبية الأرضية، لأن الإسلام ليس ضد العلم»..وأضاف:«مهاجمة العمامة البيضاء أمر يستدعى أن يمشى العلماء عراة الرأس إذا لم تحم عمائمهم»، وقال:«إذا كانت كلمتى استغرقت 20 دقيقة فإن موضوع الأزياء لم يستغرق أكثر من 3 دقائق، وهذا المؤتمر يعطى الحق لكل فرد ليقول الكلمة الأمينة الحرة التى يجب ألا يرد عليها بمواويل الأطفال فى صحف سيارة ينبغى أن تحترم نفسها».
هكذا جر«الغزالى»جريدة الأهرام إلى المعركة بعد أن طالبها بأن«تحترم نفسها»، فردت الأهرام يوم 31 مايو 1962 على صفحتها الأولى، تحت عنوان «كلمة الأهرام».. قالت: «إن الأهرام تقدس الدين وتحترمه، لكنها ترفض محاولة الشيخ «الغزالى» بأن يجعل الخلاف فى الرأى بينه وبين صلاح جاهين رسام الجريدة قضية دينية، وأن الجريدة تؤمن بحرية الرأى، لذلك تنشر نص كلمة الغزالى احترامًا لحقه فى إبداء رأيه مهما كان مختلفًا مع رأى الجريدة، مع إعطاء الحق لصلاح جاهين أن يبدى رأيه هو الآخر فيما يقوله الشيخ».
وأعطت «الأهرام» لجاهين الحق فى الرد، فنشرت فى صفحتها السابعة كاريكاتير له بعنوان: «ملاحظة على إغفال الشيخ الغزالى مشكلات المعيشة والمواضيع الحيوية»، وشمل الرسم، صورة لأطفال مشردين تنطق وجوههم بالبؤس والشقاء، وهم يحملون لافتة مكتوبًا عليها: «أين الكساء يا مشروع الأزياء.. لماذا لا تتكلم إلا عن ملابس النساء؟»، ويظهر الشيخ الغزالى معترضًا طريق المظاهرة وهو يصرخ فيهم، وتحت الرسم تعليق: «ما بتكلمش عنكم ياجهلاء لأنكم ذكور وما ظهر من جسمكم ليس عورة»،«كريمة حسن–معركة المنبر والكاريكاتير.. بين الشيخ والرسام–المصرى اليوم– 28 ديسمبر 2007».
لم تهدأ المعركة بل زاد لهيبها وبلغت ذروتها بين الطرفين يوم 1 يونيو 1962، فماذا حدث فيها، وكيف هدأت الأحوال؟