فى مخيلة الإسلاميين دولة، يحكمها مشايخهم، تلزم الناس بفهمهم للدين، وتأويلهم للنص، يكثر فيها الحرام، يندر فيها الحلال حتى تظنه غير موجوداً من الأساس، يفرض فيها النقاب على النساء قهرا، تهدم فيها المساجد ذات الأضرحة، يحلف فيها الناس فى الأسواق على طريقتهم، فان استخدم أحاد الناس التعبيرات الدارجة مثل "والكعبة" أو "والمصحف" وجد المحتسب ذو اللحية -والذى غالبا سيكون أحد شباب التنظيم الحاكم- فوق رأسه ليطبق عليه عقوبة غير موجودة أصلا فى الشريعة الإسلامية .
هذا هو جزء من ملامح الدولة كما يتخيلها عناصر التنظيمات الإسلامية، وأن ادعوا غير ذلك، ولم يكن هذا الخيال لينمو وينتشر حتى يصبح تصورا كاملا للدولة لولا أنه تسلل إلى الناس فى التفاصيل الدقيقة لحياتهم فى غيبة من الجميع، هذه الأمور التى تبدو فى نظر الكثيرين تافهة لكنها على تفاهتها تتحكم فى السلوك الجمعى للمواطنين، عندما يشيع بين الناس أن استخدام هذا اللفظ حرام أو أن الصلاة فى هذا المسجد لا تصح، أو أن المصافحة بعد الصلاة بدعة، أو أن إيداع الأموال فى البنوك ربا، أنها إذن التفاصيل التى إما أن نترك الشياطين تعبث فيها فسادا أو نطردها منها.
ووفقا لنظرية ملئ الفراغ فان انتشار الأفهام السلفية حدث فى الوقت الذى غيب فيه الصوت الوسطى عمدا، واتهم زورا بالكذب والممالاة، وفضل بعض المسئولين فى عهود سابقة ألا يخوضوا فى هذه المهاترات على اعتبار أن هناك ما هو أهم للجدل من النقاش حول صحة الصلاة داخل المسجد ذو الضريح، أو أن هناك ما هو أهم من النقاش حول صحة التوسل، فأصبحت الساحة خالية تماما إلا من أصحاب الغرض والمطامع، وتحول "صوت السلف" منبر برهامى ورفاقه، وتسجيلات الحوينى من مواد ذات طبيعة متطرفة إلى مصادر مقبولة لدى كثير من الناس، بينما موقع دار الإفتاء والأزهر يوصمون من اتباع هؤلاء الشيوخ بالتبعية، ولا يؤخذ منهم قولا أو فتوى.
دار الافتاء تدك معاقل السلفيين
فى الأسابيع الأخيرة قرر المسئولون عن دار الإفتاء تحطيم كل هذا الهراء، وتبديد ما زرعه السلفيون من أفهام عبر ساحات الانترنت، ومواقع التواصل الاجتماعى التى ظنوا أنهم أمتلكوها لعقود طويلة لا لشئ سوى أنهم لم يجدوا من يقل شيئا مغايرا، فخاضت الدار فى تلك التفاصيل التى ظلوا يرددوها بكثافة وشغلوا بها الناس حتى ظنوا أن هذا هو الرأى الوحيد الذى تقول به الشريعة الإسلامية.
بكل وضوح أجابت دار الإفتاء على سؤال حول حكم الصلاة فى المسجد الذى يوجد به الضريح؟ بأنها "مستحبة، والقول بتحريمها أو بطلانها قولٌ باطل لا يُلتَفَتُ إليه ولا يُعَوَّلُ عليه"، وبأدلة قوية أفادت دار الإفتاء أن ايقاع "المصافحة عقب الصلاة لا يُخرِجُها مِن المشروعية؛ لأنها داخلة فى عموم استحباب التصافح بين المسلمين، وهو يكون سببًا لرضا الله تعالى عنهم، وزوال ما فى صدورهم مِن ضيقٍ وغِلٍّ، وتساقط ذنوبهم مِن بين أَكُفِّهِم مع التصافح".
وأفادت دار الإفتاء أيضا "أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر مشروع، جرى عليه المسلمون سلفًا وخلفًا، ولا يجوز إنكار ذلك"، وأن الحلف بما هو مُعَظَّم فى الشرع كالنبى صلى الله عليه وآله وسلم والإسلام والكعبة لا حرج فيه؛ لأنه تعظيمٌ لما عظَّمه الله" وإن وضع المال فى البنوك فى ودائع أو حساب استثمارى أو شهادات استثمار، جائز شرعًا ولا شىء فيه"، وأنه يجوز لأهل الميت إطعام الطعام وهبة ثوابه إلى الميت بأن يقولوا، مثلًا: "اللهم هب مثل ثواب هذا العمل إلى فلان"، وهذا مما لا ينبغى أن يُخْتَلَفَ فيه"، كل هذا حدث فى اسابيع قليلة ووجد صدى هائل على شبكات التواصل الاجتماعى، فماذا اذا استمر هذا النهج لفترات طويلة.
ويقول الإمام النووي فى كتابه آداب الفتوى، إن المفتي موقع عن اللَّـه"؛ ويقول الإمام ابن القيم رحمه اللَّه فى كتابه إعلام الموقعين: "والمفتى هو المبلغ عن اللَّه تعالى، والواسطة بين اللَّه وخلقه فى بيان الحلال والحرام" فكيف نترك لذوى الغرض والهوى الساحة كى يكونوا واسطة بيننا وبين الله.