ذهبت إلى الفنان محرم فؤاد فى منزله بحى الزمالك يوم 2 أكتوبر عام 1997، وكانت ثلاثة أسابيع مرت على حفل غنائى شارك فيه، بعد غياب استمر سنوات بسبب مرضه «قلبه».. كان عمره وقتئذ 63 عاما، «مواليد 24 يونيو 1934»، واستقبله الجمهور بحفاوة رائعة وكأنه يحن إلى ماض يفتقد نسماته فى الحاضر، أما هو فكان تعليقه لى عما حدث فى الحفل: «كان عندى شعور بأنى سأعيد هرمًا مسروقًا من مصر، واستعذت بالله حتى لا يكون ذلك نوع من الغرور.. أديت ركعتين لله..كان الجمهور مفاجأة لى، لم أكن أتصور أصلًا أن فى جمهور والسبب التشويش الثقيل الذى حدث فى الماضى.. لابد أن ينتبه الإعلام المصرى إلى قضية مصيرية وهى كيف يقدم؟ وماذا يقدم؟».
كان الحفل وما جرى فيه مفتتحا لجلسة طويلة بيننا استمرت من العاشرة صباحا حتى الثانية ظهرًا، وبالرغم من أن سنوات الشيب بدت عليه كثيرا وقتئذ، وأخفت معها فتوة شبابه التى رأيناها فى فيلمه «حسن ونعمية» عام 1959، إلا أن شهيته للكلام فى السياسة والفكر والثقافة وتجارب الحياة كانت كبيرة، وزاد من حرارتها اختلافنا فى بعض الآراء السياسية.
بعد هذا اليوم استمرت الاتصالات بيننا على فترات متباعدة، حتى رحيله يوم 27 يونيو، مثل هذا اليوم، 2002»، وحين عدت إلى أوراقى التى حفظت فيها ما جرى بيننا، وجدت فنانًا يحدثنى عن خلاصة تجربة حياته بما فيها من محطات غنائية وفكرية وتجارب إنسانية لفت نظرى فى جانب منها، صور زوجاته السابقات التى وجدتها معلقة على جدران حجرة الصالون، كما وجدت إنسانًا ينتظر رحيله.. قال لى: «المطربون الكبار تركوا الحياة وما عليها دون شىء، عبد الحليم حافظ، فريد الأطرش، عبدالعزيز محمود، إبراهيم حمودة، وغيرهم، معظمهم ماتوا بلا شىء، لم يمتلكوا ثروة، بعضهم مات مديونًا، نهايات هؤلاء ماثلة أمامى، أتذكرها وأنا أهيئ نفسى للنهاية، وأدعو الله أن يمدنى بالستر».
استدعى ذكرياته مع والده: «توفى فى عام 1946، كان من أصحاب الحواس الفنية الجميلة، وترك هذا فى أثرًا كبيرًا.. كان صوته جميلًا، وورث كل إخوتى منه جمال الصوت، لكن لم يحترف الغناء أحد غيرى..ابتعد والدى عن الفن منذ شبابه، اهتم أكثر بدراسة الهندسة والعلم، والعمل فى السكة الحديد.. كان مديرًا لورش أبوزعبل.. كان دائم النصح لإخوتى العشرة بنصيحة شعبية جدًا لكنها تحمل حكمة كبيرة: «صنعة فى اليد أمان من الفقر».. النصح والحكم والتدين والإيمان بالله تعلمتها من الأسرة، كان يركز علىّ تحديدًا رغم أنى أصغر إخواتى العشرة، ورسم لى مسارًا ظن أنه هو المناسب لى وهو إلحاقى بعد حصولى على الابتدائية بالأزهر، للحصول منه على شهادة العالمية.. وصلت فى دراستى الأزهرية حتى الصف الثالث الثانوى ثم تركته لأن الموسيقى شدتنى وصرفتنى عن أى شىء.. كان والدى على قناعة بأن الانتساب إلى الوسط الفنى عيب كبير ولا يشرف، كان يراه وسطًا خارجًا عن المبادئ والتقاليد.. تأثر إخوانى الكبار بهذه القناعة لفترة كبيرة، وبحكم أنهم أوصياء علىّ بعد رحيله، رفضوا مثلًا أن يوقعوا على أى أوراق حين أردت التقدم بها إلى معهد الموسيقى، فاضطررت إلى الذهاب لمعهد أهلى وراء قصر عابدين يملكه إبراهيم شفيق».
تحدث عن البيئة التى تربى فيها: «أنا من بولاق، وأهل بولاق كلهم من متذوقى الفن، بولاق تعوم على بحيرة كلها فنون، حى بولاق توجد جميع الحرف والأدب فى أعماقه، فيه الإمكانيات التى تعتبر سرة مصر، فيه السكة الحديد، دار الكتب، المطبعة الأميرية، وزارة الخارجية، الترسانة البحرية، تجار السيارات والأقمشة، والمنتجات الغذائية بأنواعها، معهد ليوناردو دفينشى، معهد الموسيقى.. الحى كله كان عبارة عن عضلات تلعب فن، ولما يبقى ابن بولاق فى محيط به هذا النوع من الناس لابد أن يحظى بتطعيم فى وجدانه من هذا المحيط الواسع.. محيط كله كان مشجعًا ومتذوقًا، وكل هذا ساهم فى تكوينى، هذا غير بولاق الشهامة والجدعنة».
يضيف: «غنيت أمام الملك فاروق وعمرى سبع سنوات، غنيت نشيد له فى قصر عابدين، وجدت المدرسة طفلًا موهوبًا اسمه محرم فؤاد، يستطيع الغناء فأخذونى مع فريق المدرسة، وذهبنا إلى القصر.. وقفت وراء الميكرفون والملك يجلس أمامى، غنيت: «مليك البلاد عماد الوطن»..أعجب الملك بى وكان دمه خفيف، رأيى أنه كان وطنيًا وكان ضد الإنجليز».
يؤكد: «لم أتربى على أصوات غنائية معينة، لكن فى نفس الوقت كنت أحفظ كل ما أسمعه من أغانى، كانوا يسمونى من الصغر «جهاز تسجيل»، كنت أحفظ الأنغام أكثر، لكن لا أغنى لغيرى، ولا أشجع هذه الحالة، أى محترف لو خرج عن رسالته وقلد الآخرين، يتحول إلى هاوى».. انتقل محرم إلى مجال الفن ببراحه الواسع، فكانت أغنيته الأولى التى سجلها للإذاعة: «زى نور الشمس حبى وتنكره/ زى قلب الفل قلبى وتهجره/العذاب دا والهوان دا/ قلبى مين.. قلبى مين يتحمله» كلمات على مهدى وألحان عبدالعظيم محمد.
..ويستمر الحوار.