- نجيب محفوظ رفض واسطتى من أجل ترقيته.. الأديب العالمى شجعه على كتابة «شىء من الخوف» وأبوحنيفة ألهمه.. وأم كلثوم تؤذن وتقرأ القرآن
«لسنوات طويلة ولضيق المكان، احتفظت بأغلب كتبى مخزنة فى مكان ما، كنت أفكر مرارًا بأنه يمكننى سماعها تنادينى فى الليل، الآن أبقى معها كلها ولوقت طويل، مغمورا بالصور ومقاطع من نصوص أحفظها، واقتباسات عشوائية، وعناوين وأسماء».
حينما أتم الكاتب ألبرتو مانجويل، الأرجنتينى المولد، الكندى الجنسية عامه الـ53، قرر أن يعيد قراءة بعض من كتبه القديمة المفضلة، وقد دهش مرة أخرى حينما لاحظ كيف تبدو هذه العوالم المتراكمة والمعقدة من الماضى انعاكسا للفوضى السوداوية التى يحياها عالمنا الحاضر.
يرى ألبرتو مانجويل أن القراءة عبارة عن محادثة «تماما مثلما يبتلى المجانين بحوار وهمي يتردد صداه فى مكان ما فى أذهانهم، فإن القراء يتورطون أيضا بحوار مشابه، يستفزهم بصمت من خلال الكلمات فى الصفحات».
كما يرى ألبرتو مانجويل أن غالبية القراء لا يقومون بكتابة ردود أفعالهم أثناء القراءة، لكن أحيانا تنتاب قارئ ما رغبة فى إمساك القلم والتواصل مع هذا الحوار بكتابة الهوامش على النص. هذا التعليق، هذه الهوامش، هذه الكتابة الظل التى ترافق أحيانا كتبنا الأثيرة توسع من النص وتنقله إلى زمن آخر، وتجعل من القراءة تجربة مختلفة وتضفى واقعية على الأوهام التى يرويها لنا الكتاب، ويريدنا نحن القراء أن نعيشها.
ويقول ألبرتو مانجويل فى كتابه «يوميات القراءة.. تأملات قارئ شغوف فى عام من القراءة»، والتى تشبه يوميات أو أقرب إلى سيرته الذاتية، ولكن هذه السيرة التى كما نراها تتداخل فيها القراءة كفعل أساسى، ضمن ما يقوم به ألبرتو مانجويل، إن مقطعا ما فى رواية ما قد يلقى الضوء فجأة على مقالة فى صحيفة يومية، أو مشهد معين يمكن له أن يستعيد حادثة شبه منسية، وكلمات قليلة يمكن أن تكون باعثا لتأملات طويلة.
وكما يكشف لنا ألبرتو مانجويل، فقد قرر أن يعيد قراءة كتاب واحد كل شهر، ليصل بعد مرور سنة إلى شىء ما هو هجين من المذكرات الشخصية والكتاب العادى مؤلف يشتمل على ملاحظات وتأملات وأدب ورحلات، وصور وصفية لأصدقاء ولأحداث عامة وشخصية مستلهمة كلها من قراءته.
إن ألبرتو مانجويل، الذى عشق القراءة، دائما ما يعود ليؤكد على أنها فعل مريح منعزل، هادئ وحسى، سابقا تقاسمت الكتابة بعض هذه الميزات، لكنها فى الوقت الحاضر اكتسبت شيئا من صفات المهنة القديمة للبائع المتجول أو ممثل الفرجة. فالكتاب يدعون من أمكنة بعيدة لتمضية ليلة عابرة، وبدلا من أن يبيعوا فراشى التواليت أو مجلدات دائرة المعارف فإنهم يطرون على فضائل كتبهم الخاصة، بدافع هذه الواجبات أساسا.
كما يؤكد ألبرتو مانجويل، خلال سرده على أنه كلما كان يسافر إلى مدن مختلفة، كان دائما يجد نفسه مسكونا برغبة العودة إلى بيته فى القرية الفرنسية الصغيرة، حيث كتبه وعمله.
ويشير ألبرتو مانجويل إلى أن علماء الطبيعة يفترضون بأن الكون قبل نشوئه كان فى حالة طاقة كامنة، حيث لا وجود للزمان والمكان، فى ضباب الإمكانية كما يحلو لمعلق ما أن يدعوها، إلى أن حدث الانفجار العظيم. هذا الوجود الكامن فى حالة من الغموض حتى تبادر اليد إلى فتحه والعين إلى مطالعته وتوقظ الحياة فى الكلمات. ومن هنا جاءت محاولاته لتسجيل مثل هذه الإيقاظات كما يصفها.
إن مذكراتألبرتو مانجويل حول فعل القراءة، والتى ترجمها إلى اللغة العربية المترجم عباس المفرجى، وصدرت عن دار المدى فى عام 2008، قد قيل فيها الكثير من الإشادات التى جعلت منها قبلة وهدفا للعديد من عشاق القراءة على مستوى العالم، للتعرف على يوميات هذا الرجل مع الكتب، ومن بين ما قيل: «ذلك إننا يجب أن نسعى بجهد إلى معنى كل كلمة وكل سطر، لأننا نفترض دائما أن هناك معنى أكبر من الاستعمال الشائع الذى تتيحه لنا الحكمة والشجاعة وسماحة النفس التى نتحلى بها».
كما قال بورخيس عن هذه المذكرات: «مثل أى إنسان ذو ذوق رفيع، يمقت مينارد مثل هذه العروض الإيمائية العقيمة، التى لا تستفز فينا - كما يقول - إلا الفرح المبتذل للمفارقة التاريخية، أو ما هو أسوأ تسحرنا بأفكار بدائية عن أن كل العصور متشابهة أو أن كلها مختلفة».
وفى مذكراته، يقول ألبرتو مانجويل: «حينما كنا صغارا، كانت القصص تبدو كأنها لا تنتهى أبدا فى الصفحة الأخيرة من الكتاب» ثم يضيف: «لا أحب أن يلخص لى أحداً الكتب التى أنوى قراءتها، لا بأس أن يشوقنى بعنوان أو مشهد مقتبس، لكن ليس بكل أحداث الكتاب».
كما يرى ألبرتو مانجويل أن القراء المتعصبون، والتلخيص الذى يتضمنه الغلاف الأخير، ومدرسو ومؤرخو الأدب، يفسدون كثيرا من متعتنا فى القراءة من خلال وشايتهم بالحبكة، وطالما تقدم بنا العمر فإن ذاكرتنا يمكنها أيضًا أن تحرمنا من متعة الجهل بمعرفة ما سيحدث لاحقا.
ويرى ألبرتو مانجويل أنه أمر مثير للفضول كيف أن القراء يصيغون نصهم الخاص من خلال الإشارات التى يضعونها على كلمات معينة أو أسماء معينة، يكون لها، بالنسبة لهم، معناها الخاص، فهى تناشدهم وحدهم فقط ولا يمكن للآخرين ملاحظتها.
ويشير ألبرتو مانجويل إلى أن ما سبق يذكره بالناقد المجهول الاسم لرواية عشيق الليدى تشاترلى، حينما كتب منوها فى المجلة الإنجليزية هورس أند هوند بأن كتاب «لورانس» يتضمن وصفا رائعا للحياة فى الريف الإنجليزى، لكنه للأسف أفسد بالإسهابات العاطفية والجنسية.
ويرى ألبرتو مانجويل أنه من أجل أن يستهوينا كتاب ما، ربما عليه أن يقيم رابطة من الاتفاق العرضى بين تجربتنا وتلك التى فى القصة أو الرواية، اتفاق بين مخيلتين، مخيلتنا وتلك المدونة على الورق.
وحول تأثير القراءة عليه، يكشف لناألبرتو مانجويلذلك بقوله: «ما أقرأه يؤثر فى خبرتى، ليس فى الحياة فقط بل أيضًا على الصفحة. غالبا ما أجفل من اكتشاف صوت مؤلف قرأته فى مؤلف آخر شديد الاختلاف، يبعد واحدهما عن الآخر قارات وعصورا.
أما عن الفرق بين الكتابة والقراءة، فيرى ألبرتو مانجويلأن القراءة وليست الكتابة هى التى «تبقينى صاحيا. القراءة هى مهنة المؤرق بلا منازع». ومن ناحية أخرى يقول: «لا أحتمل أن أتابع مشاهد العنف فى التليفزيون أو فى الأفلام، لكن بإمكانى قراءتها موصوفة روائيا، دون كيخوته واحد من أكثر الكتب التى عرفتها عنفا».
وعن عادات القراءة، يقول ألبرتو مانجويل: «يبدو لى أن الكتب المكومة بجانب سريرى تقرأ نفسها لى بصوت عال أثناء نومى، قبل أن أطفئ الضوء أتصفح واحدا منها، أقرأ مقطعا أو مقطعين، أضعه جانبا ثم أتناول واحدا آخر، وبعد عدة أيام يكون لدى انطباع بأنى أعرفها كلها».
وحول علاقته بمكتبه، يقول ألبرتو مانجويل: «أستكشف مكتبتى مثل امرئ عاد إلى وطنه بعد غياب عقود من السنين. فى كل مرة أعود من جولة من أحد كتبى، على أن أظهر على الخارطة جغرافيته مرة ثانية، وأن أنشئ طرقا بين رفوف المكتبة، حيث أتذكر عناوينا لم أفكر بها لأسابيع، مثل رجل يجد وجهته فى مكتبة».
وفى موضع آخر، يكشف عن كيفية تأثره بما يقرأ على ترتيب الكتب فى مكتبته، فيقول ألبرتو مانجويل: «قضيت يوم أمس أعيد ترتيب كتب الروايات البوليسية. لقد وضعناها فى الطابق الأعلى، فى غرفة الضيوف، التى تعرف الآن باسم غرفة جرائم القتل».