صدرت حديثاً عن منشورات المتوسط - إيطاليا، الطبعة العربية لمجموعة المترجم والشاعر السورى أحمد م. أحمد الجديدة: "أصيد طائر كوليريدج"، بالتزامن مع طبعة المتوسط الفلسطينية "الأدب أقوى" والتي توزعها الدار الرقمية في الداخل الفلسطينى، في 104 صفحات من القطع الوسط، ضمن سلسلة "براءات" لسنة 2019، التي تصدرها الدار وتنتصر فيها للشعر، والقصة القصيرة، والنصوص، احتفاءً بهذه الأجناس الأدبية.
يعود الشاعر أحمد م. أحمد، بعد سنواتٍ، بكتابٍ شعري جديد هو عبارة عن نص واحد متقطع كما جاء في غلاف المجموعة، والذى يطالعنا فيه طائر كوليريدج حقيقى بدل توصيف: الطائر، وليكون فعلُ الصيد هنا دعوة للقارئ بأن يحظى بطائر كوليريدج، كأنَّ الشاعر بتبنيه العنوان – جملة فعلية بضمير المتكلم، ومصمم الغلاف برسمه لكلمة "طائر"، يجعلان القارئ يتورط فى الصيد ويصبح طرفاً منذ البداية في قراءة جديد أحمد م. أحمد الشعرى، الذي يهديه: "إلى غير المصدقين".
كمن يفتح أبوابا حديدية عتيقة، نسمع صرير الكلماتِ الجارحة والمجروحة فى آن، منذ الجملة الأولى، والحرف الأول، نصدق كل شيء، ونتأهب لقراءة تجعلنا نتعطش أكثر لما يأتي بعدها:
جنائزيٌّ سِفْرُنا الأخيرُ.
حبيبان كحَدَّيّ شفرة الناسيت
تبتلعين، مذعورةً، ما استطعتِ مِنّي في حمّى الجنسِ الأخير،
وأنا، ألوذُ بالأرضِ اليبابِ - أُدرِّبُ سُعالي
على ألا يشبهَ سعالَ أبي.
هذه العشبةُ العطشى التي تشمُّ رائحة الغيم البعيد،
ثم لا يأتي الغيمُ، اسمها كلمة
بلغةٍ تنحت من الأساطير والقواميس المنسية كلماتها، بنفس ملحمى يعيد كتابة المأساة الإنسانية فى أبشع صورها، بحزن يلفه السواد الذى ينز من داخله؛ يكتب الشاعر أحمد م. أحمد نصه الطويل هذا، الموزع عبر عناين تشبه مفترقات طرقٍ فى أمكنة خالية، كما يوجد تحت العنوان الواحد عناوين أخرى، كطرق فرعية، وإن تشعَّبت، تؤدي كلها إلى سوريا، حتى أن باباً كاملاً اسمه "سورياليزمات" ينفتحُ أمامنا، ليستولي على الجزء الأكبر من الكتاب، ومن المقطع المعنون "ظلالٌ تتفصَّد بالدَّم في حفل تصحيح الأخطاء"، نقرأ:
كنتُ العسكريَّ في الأرض البعيدة،
لم أعرف مع مَن، أو ضدَّ مَن قاتلتُ!
لم أخشَ أن تنهشني جثّتي في نعشٍ مظلم واحد، بقدر ما خشيتُ من فكرة أن ليس لديّ من يتذكّرني ويبكيني.
كنتُ القطّةَ على حافّة سطح الطابق التاسع، ورائي الهاوية، وأمامي يأتي ولدٌ شرير ملوِّحاً بعصاه!
حين كان الليلُ طفلاً، كنتُ أتبارى معه مَن يبزُّ الآخرَ بالسَّواد.
كان ذلك في فناءِ المنزل العتيق المهجور.
مجموعة أحمد م. أحمد الشعرية الجديدة، هي كتاب عن الحرب والجنون والدمار والتوحش الإنساني وقد بلغ مداه، عن الدبابات آكلة اللحوم، عن المذابح والمجازر والمقابر الجماعية، عن التاريخ والميتافيزيقا والله، عن الواقع الذي تجاوز في بشاعته الخيال، عن جرو يترنم بأغنية وموت أنيق بنيران صديقة، عن شاعر يتغطى بساعات سلفادور دالى، عن سرَّتها والماء، وعمن يتدرب على الغرق الأكيد، عن الطفل السورى الذى قال: "سأُخبر الله عمّا رأيت".
تتجلى واضحة روافد الشاعر المتعددة والثرية، وهو المترجم الذى نقل عديد الأعمال الأدبية من اللغة الإنجليزية، بما فيها ترجمة الشعر والرواية، ويعيش أحمد م. أحمد لما يقارب العقدين من الزمن متنقلاً بين سوريا والولايات المتحدة الأمريكية، مع ملمحٍ أصيل للغة تنحاز إلى التجريب والمغامرة الشعرية والأسلوب الخاص، كخطوة تنضاف لحشد الخطوات التي نقطعها في طريقنا لاصطياد طائر كوليريدج.