فنان وإنسان من نوع خاص امتلك قوة استطاع من خلالها التغلب على أقسى درجات الضعف الإنسانى، لم يضعف أمام المرض، بل وقف الفنان الكبير فاروق الفيشاوى متماسكا صلبا أثناء تكريمه فى حفل افتتاح مهرجان الإسكندرية السينمائى ليعلن إصابته بالسرطان، مؤكدا أنه سوف يتحدى هذا المرض ويحاربه، وسيظل يعمل حتى آخر نفس فى حياته، وهكذا أوفى بوعده فظل يعمل حتى لفظ أنفاسه الأخيرة منذ ساعات فى آخر جولة من معاركه مع مرضه الشرس.
أصاب هذا التصريح جمهور الفنان الكبير وزملائه بالصدمة، ولكنه رغم آلامه أراد أن يكون مصدرا للطاقة الإيجابية لكل مصاب بالسرطان، لأنه كان يرى أن طريقة التعامل مع هذا المرض تصدر طاقة سلبية، وأراد أن يوجه رسالة مهمة بإعلانه عن إصابته بأنه مثل أى مرض يستطيع أى إنسان هزيمته إذا تمسك بالإرادة.
ورغم قسوة هذا الاعتراف الذى لا يخرج إلا من فنان وإنسان يمتلك من الجرأة ما يهزم بها كل عوامل الضعف، وبالرغم من أن الكثير من الفنانين يخفون أخبار إصابتهم بالأمراض، فإن هذا الاعتراف لم يكن الاعتراف الصادم الوحيد والجرىء فى حياة الشجاع الراحل فاروق الفيشاوى، الذى سبق وأعلن بكل قوة فى منتصف رحلة نجوميته أنه كان عبدا للهيروين، وأنه تحرر من هذه العبودية، وكان هدفه من هذا الاعتراف أن تكون تجربته ملهمة ومحذرة لآلاف الشباب الذين يهددهم شبح الإدمان.
المتمرد المتصالح مع ذاته.. مواقف كثيرة فى حياة فاروق الفيشاوى تؤكد أنه من أكثر الفنانين جرأة وشجاعة، وأنه إنسان متصالح مع ذاته لا يخشى الاعتراف بالخطأ أو الضعف الإنسانى، ويعرف مسؤوليات الفنان تجاه مجتمعه وجمهوره الذى يراه ملهما وقدوة.
طوال رحلته الفنية تمرد الفنان الكبير على كل ما واجهه من تحديات وواجه أشكالا مختلفة من الضعف الإنسانى، الإدمان ثم المرض وحتى الشيب والشيخوخة، حيث أعلن فى أحد لقاءاته الأخيرة أنه لا يقلق من الشيب والتجاعيد ولن يصبغ شعره مطلقًا ولن يتحدى آثار الزمن، مستعينًا ببيت الشعر القائل «عيرتنى بالشيب وهو وقار ليتها عيَّرت بما هو عار».
تمرد الفنان الراحل الجرىء حتى على وسامته التى أراد البعض أن يحصره بسببها فى أدوار الشاب الوسيم المستهتر أو الشرير الأنانى، فأبدع فى عشرات الأدوار والشخصيات، قدم شخصية سايس الجراج الأخرس فى فيلم الجراج، والصعيدى فى مسلسل غوايش، والمعاق الذهنى فى «ديك البرابر» والضابط فى فيلم «المشبوه»، والمصرى الذى واجه المماليك فى مسلسل «على الزيبق» والوصولى فى «ليلة القبض على فاطمة»، وراقص التنورة فى فيلم «ألوان السما السبعة»، كما قدم شخصيات النصاب، والصول والقرداتى والمتسول وغيرها مئات الأدوار بالمسرح والسينما والتليفزيون أكدت أنه أحد عمالقة الفن والتمثيل حتى وإن تعثر بسبب أزماته وتأخر عن نجوم جيله ومنهم محمود عبدالعزيز ونور الشريف ويحيى الفخرانى وغيرهم.
المدرس الذى تحول إلى فنان ملهم.. ولد أحمد فاروق فهيم الفيشاوى الشهير بفاروق الفيشاوى عام 1952 فى إحدى قرى مركز سرس الليان بمحافظة المنوفية مسقط رأسه الذى أوصى بأن يدفن فيه لأسرة غنيه مكونة من أبوين و5 أشقاء (بنتين و3 أبناء) كان فاروق أصغرهم، وتوفى والده وهو فى سن الحادية عشرة فتولى رعايته وتربيته شقيقه الأكبر رشاد.
كان الصبى رغم ميوله الفنية يحلم بدخول كلية الآداب ليصبح مدرسا، وعندما حصل فى الثانوية العامة على مجموع 66%، أعاد السنة لأنه كان راسبًا فى اللغة الفرنسية، وهو ما لا يسمح له بدخول كلية الآداب، وفى السنة التالية نجح وحقق هدفه بدخول كلية الآداب، وانضم لفريق التمثيل بالكلية، وفى السنة الثالثة وأثناء مشاركته مع فريق التمثيل فى مسرحية المصيدة لأجاثا كريستى، شاهده الفنان والمخرج الكبير عبدالرحيم الزرقانى وأعجب به وقال له: «كلية آداب إيه اللى هتضيع عمرك فيها؟ نصيحتى لك معهد التمثيل».
وبالفعل التحق الشاب الموهوب بمعهد التمثيل وشارك فى عدد من الأعمال المسرحية والسينمائية والتليفزيونية، ومنها مسلسل المفسدون فى الأرض عام 1973، ولكن عرفه الجمهور فى دور ماجد الابن الأصغر الوسيم المدلل فى مسلسل أبنائى الأعزاء شكرا»، وبدأ اسمهه يلمع مع فيلمى المشبوه والباطنية، لتبدأ رحلة نجومية الفنان الكبير فى الأعمال الإذاعية والتليفزيونية والمسرحية والسينمائية.
أدرك الفيشاوى أنه لا يجب أن يستسلم لأدوار الشاب الوسيم فتنوعت أدواره وأبدع فى مئات الأدوار والشخصيات التى حقق من خلالها نجاحات كبيرة.
الحب ورحلة هزيمة الإدمان.. طرق الحب باب قلب الفنان الوسيم عندما شارك وهو فى السنة الأخيرة بمعهد التمثيل فى تمثيل رواية سندريلا على مسرح الطفل، وكانت البطلة التى ستقوم أمامه بدور سندريلا طالبة بالسنة الأولى بكلية الآداب اسمها سمية الألفى، فجمعتهما علاقة حب كبيرة وتزوجا ليبدأ كل منهما رحلة الحب والعمل والنجومية، وأثمر هذا الزواج عن طفلين هما أحمد وعمر وبينهما فارق حوالى 6 سنوات.
وفى منتصف طريق النجومية وتحديدا عام 1987 كانت أولى الأزمات الكبرى فى حياة الفنان النجم، بينما كان طفلاه لا يتعدى عمر أكبرهما 7 سنوات، وجاء الاعتراف الصادم الكبير فى حياة النجم الجرىء، حيث أعلن فاروق الفيشاوى بقوة وجرأة لم يصل إليها غيره أنه كان مدمنا للهيروين، بل وصارح الجمهور بتفاصيل رحلة إدمانه وشفائه من خلال حوار صحفى طلب بنفسه أن يجريه مع الكاتب الصحفى صلاح منتصر ليتحدث فيه عن هذه التجربة الصعبة وينقلها للجمهور كى يحذر من خطورة الإدمان ويحمى الشباب من هذا الشبح، وجاء الاعتراف تحت عنوان « كنت عبدا للهيروين».
أكد الفنان فاروق الفيشاوى أنه يمتلك شجاعة الاعتراف بأى خطأ ارتكبه، وأن الإنسان لن يتعلم من أخطائه طالما لا يدركها ولا يعترف بها، وكان هذا الحوار دافعا للكثير من الشباب للإقلاع عن الإدمان.
تحدث الفنان الكبير خلال الحوار الذى نشرته مجلة أكتوبر بتاريخ 13 ديسمبر عام 1987 عن تفاصيل حياته خلال تسعة أشهر كاملة كان فيها عبدًا ذليلًا للهيرويين، بدأها أثناء تقديمه مسرحية شباب امرأة، كما تحدث عن دور زوجته وقتها الفنانة سمية الألفى فى مساعدته على التعافى من الإدمان، مؤكدا أن قضية المخدرات فى مصر أخطر مما يتصورها الكثيرون، وأننا لن نستطيع مواجهة هذا الخطر بغير المعرفة بكل أبعاده، والمصارحة بكل أسراره، واعتبر مصارحته واعترافه بما حدث له خلال الرحلة من الإدمان للتعافى تجربة أراد أن يضعها أمام كل شاب حتى يحميه من هذا الشبح.
وأشار الفنان الكبير إلى حجم الخسائر المادية والنفسية والصحية التى عاشها، حيث كان ينفق كل إيراد عمله فى المسرحية على شراء الهيروين، ورفض الكثير من الأعمال الفنية خلال هذه الفترة، مشيرا إلى أن هذه الشهور التسعة كانت عارًا يجب أن يخفيه عن كل العيون، لكن حبه لشباب مصر وإحساسه الكبير بالخطر الذى يهددهم جعله يقبل بكل الرضا كشف ما كان يجب أن يخفيه عن العيون، بعدما انتصر على الإدمان فى رحلة شاقة ساعدته خلالها زوجته وإرادة رفضت ما وصل إليه، فقرر أن يهزم الإدمان وانتصر فى معركته وتحرر من عبودية المخدرات.
طاقة فنية لا تقل عن أبناء جيله.. ربما كانت هذه الاعترافات الصادمة مع غيرها من المشكلات والعثرات التى مرت فى حياة الفنان فاروق الفيشاوى سببا فى ألا يحصد من النجومية والأدوار ما يتناسب مع إمكانياته الفنية الكبيرة رغم كثرة أدوار البطولة فى حياته، حيث امتلك طاقات فنية لم تستغل بكاملها، وهو ما جعله يتأخر عن أبناء جيله، فكثيرا ما تصدرت أخباره الأسرية والاجتماعية عناوين الصحف، ومنها أزمته وتجربته مع الإدمان، مرورا بطلاقه من الفنانة سمية الألفى أم ابنيه أحمد وعمر، ثم زواجه من الفنانة سهير رمزى وطلاقه منها، وبعدها أزمة ابنه الفنان أحمد الفيشاوى وقضية النسب التى رفعتها عليه هند الحناوى لإثبات نسب ابنته لينا والتى استمرت لسنوات فى المحاكم، وبعد انتهاء هذه الأزمة تعلق الفنان الكبير الراحل بحفيدته تعلقا كبيرا، ولم يكن يفارقها حتى وفاته وكانت أسعد لحظاته عندما تناديه باسم «فاروكس».
ورغم كل هذه الأزمات، ظل الفنان الكبير مساندا لقضايا وطنه مدافعا عن القضية الفلسطينية، محتفظا بصدقه الدائم وتصالحه مع نفسه مهما كلفه من ثمن، يتقرب إلى الله بطريقته، ويعرف حق جمهوره عليه حتى وإن أخطأ.
لم يجتمع الفنان الكبير مع ابنه أحمد الفيشاوى فى أى عمل تليفزيونى، وعندما سئل عن السبب أجاب بأن أحمد يرفض تمامًا فكرة الدخول فى عمل تليفزيونى حاليا، ويعتبره مضيعة للوقت، ويركز فى مشروع سينمائى ضخم يمارس بسببه الرياضة وألعاب القوى بشكل دورى.
وفى السنوات الأخيرة، ظهر الفنان الكبير فى عدد من الأدوار أغلبها كضيف شرف ومنها مسلسل رأس الغول وعوالم خفية ولدينا أقوال أخرى. واستقبل الفنان الكبير محنة مرضه بشجاعة غير مسبوقة، وقال إنه ضحك عندما سمع خبر إصابته بالسرطان، لدرجة أن الطبيب المعالج استغرب وقال له: «أنت مصاب بالسرطان مش دور برد عشان تضحك»، مؤكدا أن هذا الضحك كان تحديا لهذا المرض وتأكيدا على أنه سوف يواجهه بكل ما أوتى من قوة وسيظل يعمل حتى آخر نفس فى حياته.
وبالفعل شارك الفنان الشجاع فى مسرحية الملك لير أثناء فترة مرضه وكانت آخر أعماله، وكان يحلم بتقديم فيلم عن المطران «كابوتشى» القس السورى الذى كان سفيرًا للفاتيكان فى القدس، ولكن لم يمهله العمر لتحقيق هذا الحلم، ورحل الفنان الجرىء بعد معركة شرسة مع المرض ولكنه واجه كل أزماته بشجاعة وجرأة لم يمتلكها غيره.. رحم الله الفنان الجرىء فاروق الفيشاوى.