يحاول كتاب "العنف: تأملات فى وجوهه الستة" للفيلسوف الشهير سلافوى جيجيك ترجمة فاضل جكتر والذى صدرت ترجمته عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الإجابة عن بعض الأسئلة، مثل: هل يسبب تطور الرأسمالية والحضارة ارتفاعًا في وتيرة العنف؟ أم هل يحدّ منه؟ وهل يكمن العنف في فكرة التجاور على بساطتها؟ وهل تقتصر ردة الفعل تجاه العنف اليوم على التفكّر؟ وذلك من طريق سبر أغوار الأنظمة الدموية التي سادت في القرن الماضي، ومقاربة العنف المسمى مقدسًا، ورسم أجندة جديدة تحدد السبيل المثلى للتفكير في العنف، والوصول إلى حلول لمشكلات يسبّبها، من خلال محاجة ثقافية لأي عنف تنتجه العولمة أو الرأسمالية أو الأصولية أو اللغة.
الكتاب يتضمن مقدمة وستة فصول وخاتمة، في مقدمته، "ثوب الطاغية الدامي"، يرى جيجيك أنه إذا كان هناك قاسم مشترك بين الأفكار والتأملات الخاصة بالعنف، فإن مفارقة مشابهة تتطابق مع هذا المفهوم؛ "إذ تبقى في عقولنا، وقبل كل شيء، مؤشرات العنف الصريحة الواضحة متمثلة في أفعال الإجرام والإرهاب والاضطراب الأهلي، والصراع الدولي". ويضيف أن علينا أن نتعلم فن التراجع؛ فن فك الارتباط بالإغراء المبهر لهذا العنف الذاتي المرئي مباشرة، فمن شأن ذلك أن يمكننا من أن نطيح العنف، "ما يؤدي إلى إدامة جهدنا الفعلي المكرَّس لمحاربة العنف وتعزيز التسامح".
في الفصل الأول "النجدة! ثمَّة عنف!" يبحث جيجيك في الذاتي والموضوعي في العنف، وفي الجنسانية في العالم اللامتناغم، وفي الشيوعيين الليبراليين. يقول إن مواجهة أشكال العنف، بدءًا من العنف المادي المباشر كالقتل الجماعي والإرهاب إلى العنف العقائدي الأيديولوجي كالعنصرية والتحريض والتمييز الجندري هي شغل الموقف الليبرالي المتسامح الشاغل. يسأل: "أليس ثمة شيء مثير للريبة في هذا التركيز على العنف الذاتي - ذلك العنف المفَعَّل بعناصر اجتماعية: أفراد أشرار، وأجهزة قمعية مدرّبة، وحشود أعماها التعصُّب؟ أليس في ذلك محاولة يائسة لصرف الأنظار عن بؤرة الشر الحقيقية، من خلال طمس الأشكال الأخرى من العنف، وصولًا إلى المشاركة في ممارستها؟".
في الفصل الثاني، "خفْ جارَك كما تخافُ نفسَك!" يتصدى المؤلف لسياسة الخوف، ومقولة الجيرة والجار، ولعنف اللغة. وفي رأيه، تجد الحضارة الأوروبية أنّ من الأسهل التسامح مع طرائق حياة مختلفة، من منطلق ما يدأب نُقّادها عادةً على التبرؤ منه واستنكاره بوصفه مكمن ضعفها وسبب إخفاقها، أي اغتراب الحياة الاجتماعية، "فأحد الأشياء التي يعنيها الاغتراب هو أن المسافة الفاصلة تدخل في النسيج الاجتماعي للحياة اليومية بالذات. حتى إذا كنت أعيش جنبًا إلى جنب مع آخرين، فإنني أتغاضى عنهم في حالتي الطبيعية. مسموح لي ألّا أبالغ في الاقتراب من الآخرين، وأن أتحرك في فضاء اجتماعي يمكّنني من التفاعل مع آخرين مراعيًا قواعد ميكانيكية خارجية معينة، من دون مشاركتهم عالمهم الداخلي". يضيف: "لعل الدرس الذي ينبغي تعلمه هو أن جرعة اغتراب تكون أحيانًا وسيلة يتعذر الاستغناء عنها للتعايش السلمي. أحيانًا ليست الغربة مشكلة، بل هي حلّ".
في الفصل الثالث، "مَدٌّ دَمَوي منفلت"، يتناول جيجيك شريطًا طويلًا من العنف الدموي الذي تتخلله حالات غريبة من التواصل المجامل والسخط الإرهابي، وآخره العنف الأوروبي ضد اللاجئين، وخصوصًا الأفارقة منهم، مسلطًا الضوء على محدودية المقاربة المتسامحة القائمة على قاعدة تعددية ثقافية لا تكف عن إلقاء المواعظ الداعية إلى فتح الحدود وقبول الآخرين، "فلو فُتحت الحدود لكانت الطبقة العاملة المحلية هي طليعة التمرد ضد هذا الإجراء. وهكذا يغدو واضحًا أن الحل لا يكمن في هدم الجدران والسماح بدخول الجميع، وهو المطلب السهل الفارغ الصادر عن الليبراليين الراديكاليين ذوي القلوب الرقيقة؛ فمن المؤكد أن الحل الحقيقي الوحيد هو هدم الجدار الحقيقي، لا جدار وزارة الهجرة، بل الجدار الاقتصادي - الاجتماعي. كما أن الحل يكمن في تغيير المجتمع وصولًا إلى جعل الناس يكُفّون عن محاولاتهم اليائسة للهروب من عوالمهم الخاصة".
في الفصل الرابع، "تناقضات العقل المتسامح"، يدور نص جيجيك حول سؤال: ليبرالية أم أصولية؟ قائلًا إن ثمة طاعونًا في هاتين الدارَيْن. كما يسأل: لماذا نحن أكثر حساسية حيال هذا العنف اليوم؟ يجيب: "تحديدًا لأن الدول السيادية، في كونٍ عالمي يشرعن نفسه بأخلاق عالمية، ما عادت مستثناة من الأحكام الأخلاقية، بل تُعامل بوصفها كيانًا يجب معاقبته على جرائمه، مهما بلغت حدة السجالات الدائرة في شأن هوية من يطبِّق العدالة ومن يُحاكم القاضي. إن سيادة الدولة أصبحت مقيّدة بصرامة. ومن شأن هذا أن يُلْقي ضوءًا على القيمة الرمزية لصراع الشرق الأوسط. نجدنا في مواجهة هشاشة وسهولة اختراق الحدود الفاصلة بين سلطة غير دولتية وغير شرعية وسلطة دولتية شرعية".
في الفصل الخامس "التسامح مقولة أيديولوجية"، يتناول جيجيك مسألة تثقيف السياسة، فيرد تصوُّر مشكلات كثيرة اليوم أنها مشكلات تعصُّب وعدم تسامح، بدلًا من رؤيتها مشكلات تفاوُت وانعدام مساواة واستغلال وظلم إلى عملية إضفاء صفة الثقافة على السياسة أو إلباس السياسة ثوبًا ثقافيًا. يقول: "يجري تعريض الخلافات والتباينات السياسية - وهي خلافات مشروطة بعدم التكافؤ السياسي أو الاستغلال الاقتصادي - لعملية تطبيع وتجنيس وتحييد، وصولًا إلى جعلها تبدو خلافات ثقافية حضارية، أي تباينًا في أنماط الحياة، وخلافات حضارية هي من المسلمات التي يتعذر التغلب عليها، ولا يمكن إلا تحمُّلُها والتسامح معها".
ويضيف قائلًا إن من السهل جعل مفهوم التسامح إشكاليًا، وجعل العنف الذي يديمه واضحًا ملموسًا. فهو، ليس كونيًا شاملًا بالفعل، وليس فظًا عديم الثقافة.
أما في الفصل السادس "العنف السماوي"، فيقول المؤلف إن ملكوت العنف السماوي هو ملكوت السيادة الذي لا يكون فيه القتل تعبيرًا عن حالة مرضيّة شخصية، ولا عن جريمة، أو قُربانًا مقدَسًا. كما أنه ليس جماليًا، ولا أخلاقيًا، أو دينيًا. وهو يتقاطع جزئيًا مع التحرر الحيوي - السياسي من القرابين البشرية المقدسة. وفي الحالتين، ليس القتل جريمة، وليس المقتولون أضاحي. فأولئك الذين يجهز عليهم العنف السماوي مذنبون. وهذا العنف لا يطهِّر المذنب من ذنبه بل من القانون، لأن القانون محصور في الأحياء: لا يستطيع تجاوز حد الحياة وصولًا إلى المساس بما هو وراء الحياة، بما هو أكثر من الحياة المجردة. وهو تعبير عن دافع محض، عن انعدام الموت، عن فائض الحياة الذي يسدد سهامه إلى الحياة العارية المنظّمة بالقانون.