بعد 43 عاما من اغتيال إسرائيل للمبدع المناضل الفلسطينى غسان كنفانى فى لبنان، تتذكر زوجته «آنى» الدنماركية يوم الفاجعة: «صباح الاغتيال» 8 يوليو- مثل هذا اليوم 1972»، جلسنا أطول من العادة، نشرب قهوتنا التركية على الشرفة، وكان لدى غسان كما هو دأبه الكثير من الأمور للتحدث عنها، وكنا كما هو دأبنا دوما حاضرين للاستماع، كان يخبرنا ذلك الصباح عن رفاقه فى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثم بدأ يتحدث هو وأخته فايزة عن طفولتهما فى فلسطين».
تضيف «آنى» فى حوار أجراه خالد جمعة لوكالة «وطن للأنباء» يوم 30 يونيو 2015: «قبل أن يغادر متوجها إلى مكتبه، أصلح القطار الكهربائى لابننا فايز ولابنة أخت غسان وأخيها. كان الثلاثة يلعبون داخل المنزل ذلك الصباح، وكان على «لميس» ابنة أخت غسان أن ترافق خالها إلى وسط البلد للمرة الأولى منذ وصولها من الكويت بصحبة أمها وإخوتها لأسبوع خلا.. فما هى إلا دقيقتان على تقبيل غسان ولميس إيانا قبل «إلى اللقاء» حتى دوى انفجار مريع.. تطايرت نوافد البيت جميعها، انحدرت بسرعة، لأجد أشلاء سيارتنا الصغيرة تحترق، وجدنا «لميس» على بعد بضعة أمتار، ولم نجد غسان، ناديته باسمه، ثم اكتشفت ساقه اليسرى، وقفت مشلولة فيما راح فايز يضرب برأسه الحائط، ورددت ابنتنا ليلى النداء تلو النداء: «بابا، بابا»، وعلى الرغم من ذلك ساورنى أمل ضئيل بأنه قد أصيب إصابة خطرة ليس إلا، لكنهم عثروا عليه فى الوادى قريبا من منزلنا، ونقلوه بعيدا عنا، وفقدت الأمل بأن آراه مرة أخرى».
اغتالته إسرائيل وعمره 36 عاما «مواليد 9 أبريل 1936 فى عكا»، ويبدو حاصل عطائه الأدبى والنضالى أطول من عمره القصير.. يذكر الكاتب والناقد اللبنانى «بيار أبى صعب»: «لم يعش سوى 36 عاما، لكننا إذا نظرنا إلى كتاباته الروائية والقصصية والمسرحية والنقدية، إضافة إلى عمله كباحث وسياسى ومؤرخ وصحافى ورسام نحسب أننا أمام كتيبة من المؤلفين وليس كاتبا فردا».
مع نكبة 1948 غادر مع العائلة من فلسطين إلى لبنان ثم إلى سوريا وحصل منها على شهادة الثانوية، وانتقل إلى الكويت وفيها تعرف على الزعيم الفلسطينى جورج حبش، الذى طلب منه الانتقال إلى لبنان 1960، وأصبح عضوا فى حركة القوميين العرب، وفى 1967 بدأ العمل مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وفقا لبسام أبوشريف فى كتابه «غسان كنفانى مفكرا ومناضلا» مضيفا: «لم تغب السنوات الإحدى عشر التى قضاها فى فلسطين عن باله، ظل مشدودا إلى مسقط رأسه بأمراس خفية من الوجد والعشق والحنين، ما حمله وهو صبى يافع على دخول معترك السياسة والانخراط فى حركة القوميين العرب أصبح رئيس تحرير مجلتها «الهدف»، جاعلا فلسطينه الموضوع الأساسى فى قصصه وروايته بكل ما فيها من حوادث وذكريات وشخوص».
من رواياته: «عائد إلى حيفا»، و«رجال من الشمس»،» «أرض البرتقال الحزين»، و«أم سعد» و«عن الرجال والبنادق و«القميص المسروق» و«ما تبقى لكم» و«العاشق» و«الشى الآخر» و«عالم ليس لنا».. ووفقا للناقد فاروق عبد القادر فى دراسته «الرواية الفلسطينية من المنفى إلى الانتفاضة»: «يصبح من أهم الكتاب الفلسطينيين الذين عبروا فى إبداعهم عن تطور الشخصية الفلسطينية من النكبة حتى حتمية الثورة المسلحة»، مضيفا: «كان غزير الإنتاج بالرغم من موته المبكر فهو كاتب مقال، وروائى ومؤلف مسرحى وقصة قصيرة، وحتى اليوم يعد الروائى الفلسطينى الأول من حيث القيمة والأهمية، وكل إنتاجه كان يدور حول معنى واحد وهو أن تحرير فلسطين لن يتم إلا بالمقاومة المسلحة وليس شىء آخر وله فى ذلك عبارة شهيرة: «كن رجلا تصل إلى عكا فى غمضة عين، إما إذا كنت لاجئا فقط فلن تراها أنت ولن يراها حتى أحفادك»..يذكر الكاتب اللبنانى طلال سلمان: «أحفظ لغسان كنفانى أنه أدخلنى إلى قلب فلسطين، وقد كنت وجيلى نقف على بابها، ونحبها بلسان الشعراء من دون أن نعرفها، كذلك أحفظ لغسان أنه فتح أمامى وجيلى الباب لمعرفة إسرائيل معرفة تفصيلية بأحزابها وقواها السياسية وتركيبتها الاجتماعية والتيارات الدينية ومؤسساتها العسكرية والأمنية».
جاء رثاء محمود دوريش له موجعا: «جميل أنت فى الموت يا غسان، بلغ جمالك الذروة حين يئس الموت منك وانتحر، لقد انتحر الموت فيك، انفجر الموت فيك لأنك تحمله منذ أكثر من عشرين سنة ولا تسمح له بالولادة، اكتمل الآن بك، واكتملت به، ونحن حملناكم- أنت والوطن والموت- حملناكم فى كيس ووضعناكم فى جنازة رديئة الأناشيد، ولم نعرف من نرثى منكم، فالكل قابل للرثاء، وقد أسلمنا أنفسنا للموت الطبيعى، أيها الفلسطينيون احذروا الموت الطبيعى».. تأثر الشاعر كمال ناصر بهذا الرثاء المنشور فى مجلة «الهدف»..فسأل «درويش»: «ماذا ستكتب عن موتى، بعد أن كتبت كل شى عن غسان؟، وحسب إلياس خورى فى مقال «رجل تحت الشمس» يدعى غسان كنفانى»: «ضحك محمود يومذاك من النرجسية الفلسطينية المرتبطة بالموت، ونسى الحكاية إلى أن قتلت إسرائيل كمال ناصر بعدها بتسعة أشهر «10 إبريل 1973».