يبدو أن الحكومة الإيرانية آثرت طريق التصعيد مع الولايات المتحدة، لتحقق أكبر قدر من المكاسب، عبر قرارها الأخير بزيادة معدلات تخصيب اليورانيوم، وهو القرار الذى يمثل انتهاكا صريحا للاتفاق النووى الإيرانى، حيث تسعى طهران إلى مواجهة العقوبات الأمريكية عبر سياسة تصعيدية تضع الرئيس الأمريكى فى موقف حرج، يظهر خلاله بصورة العاجز، غير القادر على التعامل مع الخطر الإيرانى، مع اقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والتى يراهن خلالها ترامب على مثل هذه الملفات الشائكة، للترويج إلى انتصاراته الدبلوماسية، التى عجز أسلافه عن تحقيقها.
الجانب الإيرانى ربما قرأ جيدا استراتيجية خطاب ترامب الداخلى، والذى يقوم على فكرة مغازلة الأنصار، عبر دحض التهديدات التى تؤرقهم منذ عقود طويلة من الزمن، وعلى رأسها إيران وكوريا الشمالية، بعيدا عن إراقة دماء الجنود الأمريكيين، من خلال الانغماس فى حروب جديدة، على غرار ما فعله الأسلاف، فى أفغانستان والعراق، كما أنه أدرك كذلك طبيعة خطابه الدولى القائم على التصعيد الذى يؤدى فى النهاية إلى الجلوس على مائدة المفاوضات، عبر إرضاخ الخصوم، وإجبارهم على تقديم أكبر قدر من التنازلات.
الحالة الكورية.. تنازلات بيونج يانج أتت بثمارها
النهج الأمريكى تبين بجلاء فى التطورات التى شهدتها رحلة ترامب مع كوريا الشمالية، منذ صعوده إلى عرش البيت الأبيض، حيث بدأ طريق الحل عبر تصريحات عدائية متبادلة، وصلت إلى حد التهديد بالسلاح النووى، بينما تدرجت الأمور بعد ذلك لتصل إلى تلك اللقطة التاريخية التى دخل فيها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى أراضى بيونج يانج فى مشهد تاريخى قبل عدة أيام، ليكون أول رئيس للولايات المتحدة يدخل الأراضى الكورية.
ترامب لحظة دخوله أراضى كوريا الشمالية
ولعل الخطوة الأمريكية الأخيرة تجاه بيونج يانج تأتى بعد شهور من التوتر، خاصة بعد فشل القمة الثانية بين الرئيس ترامب، ونظيره الكورى الشمالى كيم جونج أون، حيث أعلنت بيونج يانج تحديها للإدارة الأمريكية بعد أشهر من التنازلات، التى قدمتها بيونج يانج، من بينها وقف التجارب النووية، وتسليم السجناء الأمريكيين الذين قبعوا فى سجونها لسنوات، دون مقابل أمريكى ملموس، حيث كان الرفض الأمريكى لرفع العقوبات المفروضة على كوريا الشمالية، أو على الأقل تخفيفها، السبب الرئيسى فى فشل القمة الثانية، وبالتالى توتر العلاقات بعدما شهدت تطورات إيجابية فى أعقاب القمة الأولى التى عقدت فى سنغافورة.
وبدت ملامح التوتر بين واشنطن وبيونج يانج فى الشروط التى فرضتها الأخيرة على الجانب الأمريكى، ومنها رفض دخول وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو فى أية مفاوضات مستقبلية بين البلدين، بالإضافة إلى التلويح بالعودة إلى التجارب الصاروخية، وهو ما أقدم عليه نظام كوريا الشمالية جزئيا، مما دفع الرئيس ترامب إلى الاستجابة ولو ضمنيا لمطلب النظام المارق، وقد اتضح ذلك فى تهميش دور بومبيو، لتصبح إدارة الملف الشائك مسئولية الزعيمين مباشرة.
طهران تستلهم التجربة الكورية.. ما هو الرهان الإيرانى؟
التنازلات الأمريكية لكوريا الشمالية ربما ألهمت طهران، قبل قرارها الأخير بزيادة معدلات تخصيب اليورانيوم، فى تحد صريح للإدارة الأمريكية، وهو ما يرجع فى جزء منه إلى إدراك الحكومة الإيرانية إلى حاجة ترامب إلى تحقيق تقدم ملموس فى الملف الإيرانى، قبل الدخول فى معمعة الانتخابات الرئاسية، للترويج إلى انتصاراته الدبلوماسية، ونجاحاته فى احتواء خصوم واشنطن التاريخيين، خاصة وأن التنازلات المتواترة التى قدمتها بيونج يانج فى البداية لم تؤدى فى النهاية إلا إلى مزيد من التعنت والإملاءات الأمريكية.
روحانى
محاولات إيران لاستلهام العبر من التجربة الكورية الشمالية تبدو واضحة تماما، خاصة فى ظل اطمئنان طهران التام، لعدم إقدام واشنطن على اتخاذ قرار عسكرى بصددها، حيث أن اتجاه واشنطن لاستخدام قوتها العسكرية لردع إيران لا يبدو قائما فى رؤية ترامب، والذى يسعى إلى الانسحاب العسكرى من عدة مناطق بالعالم، لاسترضاء القاعدة الشعبية المؤيدة له بالداخل الأمريكى، وهو ما بدا فى قراره بالانسحاب العسكرى من سوريا قبل عدة أشهر، وكذلك سعيه إلى إبرام اتفاقية سلام مع طالبان تمهيدا للانسحاب الكامل من أفغانستان، بالإضافة إلى رغبته الملحة فى الانسحاب، أو على الأقل تخفيف الوجود العسكرى فى شبه الجزيرة الكورية، بعد إنهاء النزاع مع كوريا الشمالية.
معطيات مختلفة.. غياب الثقة الدولية أكبر التحديات أمام إيران
وهنا يثور التساؤل حول ما إذا كانت الرؤية الإيرانية سوف تؤتى ثمارها فى المرحلة المقبلة، بحيث تتخذ الإدارة الأمريكية منحى ناعما، فى التعامل مع طهران، على غرار النهج الذى يتبناه ترامب حاليا مع كوريا الشمالية، وذلك بالرغم من الاختلافات الكبيرة بين الحالتين، وأبرزها نجاح دبلوماسية بيونج يانج فى فرض رؤيتها، عبر الخروج من عزلتها الدبلوماسية، وتحقيق قدرا غير مسبوق من الانفتاح على العالم، ربما لم يكن متوقعا قبل سنوات لا يتعدى عددها أصابع اليد الواحدة.
الدبلوماسية الكورية الشمالية نجحت فى فرض رؤيتها على إدارة ترامب، عبر فوزها بدعم خصومها، وعلى رأسهم كوريا الجنوبية، قبل حلفائها، كالصين، حيث اتخذت بيونج يانج نهجا تصالحيا مع جارتها الجنوبية، منذ قبل انعقاد القمة الأولى بين ترامب وكيم فى سنغافورة، والتى استبقها زعيم كوريا الشمالية بقمة مع نظيره الكورى الجنوبى مون جاى إن فى المنطقة الحدودية المنزوعة السلاح فى شهر أبريل من العام الماضى، وهو ما يمثل خطوة مهمة لكسب الثقة الدولية، بالإضافة إلى تمسكه فى الوقت نفسه بتحالفه مع الصين، والتى تمثل أحد الخصوم الرئيسيين لواشنطن فى المرحلة الراهنة، على خلفية نزاعاتهما التجارية، وهو ما أكسبها قدر كبير من القدرة على المناورة فى صراعها الدبلوماسى مع واشنطن مكنها فى النهاية من فرض كلمتها.
كيم خرج من العزلة بفضل إنهاء الخصومه مع الجوار.. فهل تتعلم إيران الدرس؟
إلا أن الأمر يبدو مختلفا إلى حد كبير فى الحالة الإيرانية، حيث أن طهران لا تحظى بثقة دول الجوار فى منطقة الخليج، بل ولم تقم بتقديم أى مبادرة من شأنها احتواء مخاوف القوى الإقليمية من أنشطتها التى تساهم بصورة كبيرة فى زعزعة الاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط، كما أن خطوتها الأخيرة بزيادة معدلات تخصيب اليورانيوم، تمثل هى الأخرى انتصارا كبيرا لإدارة ترامب، فى معركتها ضد الحلفاء الأوروبيين، الذى أعربوا عن تمسكهم بالاتفاق النووى، الذى أبرموه مع طهران فى يوليو 2015، بعدما قررت واشنطن الانسحاب منها فى مايو من العام الماضى، خاصة وأنها تمثل تقويضا صريحا للثقة الأوروبية فى إيران.
وهنا يمكننا القول أن أزمة الثقة التى تعانيها طهران أصبحت مزدوجة بعد القرار الأخير، فهى لا تحظى بثقة القوى الإقليمية ودول الجوار من جانب، كما أنها خسرت كذلك ثقة شركائها الدوليين فى أوروبا، والذين أصروا على دعم الاتفاق معها، فى تحد صريح لحليفهم الأمريكى من جانب آخر، وبالتالى فإن رهان طهران على تكرار سيناريو كوريا الشمالية يبدو خاسرا، فى ظل اختلاف المعطيات فى الحالتين.