صدر مؤخرا عن مركز سلطان بن زايد للثقافة والإعلام فى إمارة أبو ظبى، كتاب جديد للباحث فى العلاقات الدولية أحمد محمد أبو زيد، تحت عنوان "من الاتحاد إلى الريادة: القوة الناعمة وصعود النفوذ الإماراتى"، ويعد هذا الكتاب من أوائل الدراسات العلمية الرصينة باللغة العربية التى تتناول موضوع القوة الناعمة وصعود التأثير والنفوذ الدولى والإقليمى لدولة الإمارات العربية المتحدة.
يقول المؤلف أحمد أبو زيد، مدير الأبحاث بالمعهد الدولى للدبلوماسية الثقافية فى دبي، والمحاضر فى كلية العلاقات الدولية بجامعة سانت اندروز فى اسكتلندا، بأن هذا الكتاب "يجادل بأنه فيما يتعلق بالقوة الناعمة على مستوى الشرق الأوسط، فإن القرن الجديد لن يكون مصرياً (كما كان خلال القرن العشرين) وإنما سيكون قرناً خليجيا، وتحديداً إماراتيا". ويذهب المؤلف للقول، بناء على تحليل التفاعلات والتطورات الجارية فى النظامين الإقليمى العربى والخليجى، خلال العقدين الماضيين (2000 – 2020) بأن النصف الأول من القرن الحادى والعشرين ستكون الكلمة العليا فى تحديد مسار ومستقبل المنطقة العربية فى أيدى أعضاء منظمة مجلس التعاون الخليجي، وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة.
توصلت هذه الدراسة، التى ذكر المؤلف أنها محصلة عشرة أعوام من رصد ومعايشة صعود القوة الناعمة الإماراتية بوجه خاص، إلى استخلاص رئيسى يقول بأن دولة الإمارات العربية المتحدة قد نجحت – كما تدل كافة المؤشرات والبيانات الدولية والإقليمية – فى بناء نموذج سياسى وتنموى واجتماعى فريد من نوعه، جعلها بمثابة المركز السياسى والاقتصادى والتكنولوجى فى المنطقة الممتدة من المغرب غرباً حتى الهند شرقاً، ومن تركيا شمالاً حتى أثيوبيا جنوباً.
كتاب من الاتحاد إلى الريادة
جوهر هذا "النموذج الإماراتي" الرائد فى رأى المؤلف يعود لما يسميه بـــ "عقيدة محمد زايد". وقصد بها ما أشار إليه الشيخ محمد بن زايد (ولى عهد أبو ظبى ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة) وأطلق عليه "الروح الإماراتية الجديدة" الداعية للاهتمام بالتنمية والاستثمار الداخلي، خاصة فى الإمارات الشمالية، وتشجيع ومساندة المبادرات المجتمعية الوطنية. وإعادة الشرق الأوسط إلى مسار الأمل والتطور والازدهار الدائم للجميع، عبر مواجهة التحديات الكبيرة من أجل حماية التعددية والتعايش من القوى التى تهددها من جانب، وبلوغ غاية السلام والاستقرار عبر العمل والتعاون المشترك مع الأصدقاء والحلفاء فى كل مكان. وذلك عبر ما يطلق عليه المؤلف بمنهج "الليبرالية المؤسساتية" فى السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، والقائم على أسس مثل "الالتزام بقواعد وأعراف القانون الدولي، وانتهاج سياسات تعاونية وسلمية تهدف لتعزيز التكامل والتقارب الجغرافى بين الدول، والعمل على تسوية النزاعات المحلية والإقليمية فى البيئات المحيطة بها بصورة سلمية، تراعى حساسيات السيادة والتدخل الخارجى فى الشؤون الداخلية للدول، وطبيعة وتركيبة المجتمعات الأخرى، والالتزام الحقيقى بحل وإدارة هذه الصراعات بصورة سليمة وتحظر اللجوء لاستخدام القوة العسكرية".
حيث يقول المؤلف أنه "بفضل هذه "الروح الإماراتية الجديدة" أصبحت دولة الإمارات العربية المتحدة بمثابة حجر الأساس مع عدد من الدول فى منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بفضل قوتها الناعمة ودبلوماسيتها الثقافية التى دأبت على اتباعها منذ عقود، وبما أظهرته المؤسسات الدبلوماسية الإماراتية من مرونة وذكاء فى التعاطى مع التغيرات والتطورات الجارية فى البيئة الدولية المحيطة بها، وفى نفس الوقت الحفاظ على ثوابتها وقيمها الوطنية والتزاماتها الأخلاقية القائمة بالأساس على تحقيق المصالح المشتركة بين كافة الشعوب والمجتمعات."
يتكون هذا الكتاب من سبعة فصول، بالإضافة للمقدمة والخاتمة، مقسمة لجزأين. القسم الأول نظري، ويضم الفصول الثلاثة الأولى من الكتاب، وقسم عملى أو تطبيقى عن دولة الإمارات العربية بوجه خاص خلال الفصول الأربعة المتبقية من الكتاب.
يتناول الفصل الأول الجدل النظرى بين المدارس الفكرية فى دراسة العلاقات الدولية (الواقعية والليبرالية) حول ماهية مفهوم القوة فى العلاقات الدولية، وماهى مصادرها وأنواعها وكيفية وتوظيفها لتحقيق وإنجاز المصالح الوطنية للدول فى النظام الدولي؟ وكيف أثر التحول والتطور الذى شهدته ظاهرة "القوة" فى العلاقات الدولية فى أسلوب وطريقة السلوك والتفاعل الدبلوماسى بين الوحدات الدولية، وطرق الممارسة الدبلوماسية وتوجهات السياسة الخارجية للدول؟ ثم يناقش المؤلف بالتفصيل مفهوم القوة الناعمة، الذى ابتكره عالم السياسة الأمريكى الشهير جوزيف ناى (Nye) منذ ما يقارب ثلاثة عقود.
ثم يتتبع المؤلف فى الفصل الثانى الجدل الدائر حول تطور العمل الدبلوماسى منذ نهاية الحرب الباردة وحتى أحداث الربيع العربى (1991-2011). حيث سيتم مناقشة الجدل حول ما يسمى الدبلوماسية الشعبية (Public Diplomacy) وما يسمى الجيل الثانى من الدبلوماسية (Diplomacy 2.0) والذى لعبت فيه ما يعرف بالجيل الثانى من الانترنت (Web 2.0) دوراً غير مسبوق أو معهود من قبل. وأخيراً الجدل الراهن حول الدبلوماسية الثلاثية الأبعاد (Triplomacy) وكيف يمكن أن تساهم فى حل وإدارة الأزمات الدولية والإقليمية بصورة أكثر فعالية وارتباطاً بالواقع الدولى الراهن، وكيف يمكن الاستفادة منها وتوظيفها فى توسيع نطاق الأمن والاستقرار والسلام والحرية والتفاهم العالمي.
فى الفصل الثالث يتطرق المؤلف – فى أول دراسة عربية لمفهوم "الدبلوماسية الثقافية"، حيث حاول أبو زيد إلقاء الضوء على هذه الأداة الدبلوماسية، والتعريف بها وبأهدافها وغاياتها ووسائل عملها والأطراف القائمين بها... الخ، باعتبارها أحد أهم وسائل القوة الناعمة التى توظفها الدول لتحقيق مصالحها الوطنية وتوسيع دائرة نفوذها الإقليمى والدولي.
يبدأ القسم الثانى من الكتاب بمحاولة شجاعة وغير تقليدية (وربما حتى غير مسبوقة) لتأصيل ما يعرف بـ "المصلحة الوطنية" لدولة الإمارات العربية المتحدة. التى يقول المؤلف إنه "قد لاحظ غياب وجود تصور عام (أو حتى جزئي) لماهية المصالح الوطنية الإماراتية. بعيداً عن الاستراتيجيات الوطنية المنشورة (مثل دبى 2021 وأبو ظبى 2030) والتى لوحظ أيضا أنها لم تتطرق للسياسات الخارجية، وركزت جل اهتمامها على السياسات الداخلية لدولة الإمارات العربية المتحدة".
عبر مناقشة المبادئ العامة للسياسة الخارجية الإماراتية منذ قيام الاتحاد الإماراتى فى ديسمبر 1971. والأسس العامة لهذه السياسة التى وضعها المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وماهية التحديات والمخاطر التى تواجه السياسة الخارجية الإماراتية خلال العقود الأولى من القرن الحادى والعشرين، قام المؤلف بوضع خطوط عامة لما اسماه "استراتيجية وطنية إماراتية مستقبلية". تضم هذه الاستراتيجية قائمة بماهية هذه المصالح الوطنية، وتحديد التحديات والمخاطر التى تواجه دولة الإمارات العربية المتحدة، سواء على المستوى المحلى أو الخارجي، وتلك التى تسببها البيئات الإقليمية والدولية المحيطة بها، فى ظل وجودها فى منطقة مليئة بالكراهية والأحقاد والانقسامات الطائفية ومشاعر الكراهية والعداء، وتسودها النزاعات المسلحة والانفصالية والتطرف الدينى والطائفي. وأخيراً، قام المؤلف فى نهاية هذا الفصل الشائك والثرى بوضع مصفوفة من البدائل والخيارات المتاحة أمام صناع القرار الإماراتى للحفاظ على أمن واستقرار وتعزيز اللحمة الوطنية والسلم الأهلى من جانب، وتحقيق المصالح الإماراتية الخارجية من جانب آخر.
أما أهم الفصول فى الكتاب فهو الفصل الخامس، الذى يتصدى فيه الباحث فى العلاقات الدولية أحمد أبو زيد لرصد مظاهر ما أسماه بظاهرة "الصعود الإماراتي" من ناحية مقوماته، أبعاده، أهدافه. كما ناقش الفصل كيف وظفت دولة الإمارات العربية المتحدة قوتها الناعمة فى توسيع وتعزيز قوتها ونفوذها الإقليمى والخارجي، وذلك من خلال إلقاء الضوء على نماذج وطنية إماراتية فى كل إمارات الدولة، وليس فقط فى دبى أو أبو ظبي، كما دأبت أغلبية الدراسات التقليدية فى التركيز على قطبى السياسة الإماراتية. حيث يحسب للمؤلف إلقاءه الضوء على نموذج تعرض كثيرا للغبن والتجاهل، والمقصود هو النموذج الفريد من نوعه الذى تقدمه إمارة الشارقة، تحت قيادة الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمى (عضو المجلس الأعلى للاتحاد وحاكم الشارقة) الذى يرى المؤلف أنه يقوم بممارسة وتطبيق هـذا النهج منذ أربعة عقود على أقل تقدير. من قبل أن تدخل مصطلحات "القوة الناعمة" و "الدبلوماسية الثقافية" قاموس العلوم السياسية والعلاقات الدولية والدبلوماسية العالمية. كما يولى المؤلف اهتماما غير تقليدى بإمارات عجمان والفجيرة ورأس الخيمة وأم القيوين، التى يرى أنها تمثل هذه الأخرى – مثل دبى وأبو ظبى – فرصا استثمارية واعدة فى مجال القوة الناعمة والدبلوماسية الثقافية، التى تدعم وتعزز القوة السياسية الناعمة والدبلوماسية الثقافية الإماراتية.
فى الفصل السادس من الكتاب، قام المؤلف باستعراض صور وأبعاد المخاطر والتهديدات التى تواجه السياسة الخارجية لدولة الإمارات العربية المتحدة منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وكيف أثرت التحولات الجارية فى المنطقة على قوة دولة الإمارات المتحدة الدبلوماسية وسياساتها الخارجية بوجه عام. ويختتم المؤلف كتابه بمحاولة تلخيص التحديات التى تواجه محاولات دولة الإمارات وقيادتها السياسية ومساعيها لتنفيذ وتطبيق سياسة خارجية عمادها القوة الناعمة والدبلوماسية الثقافية (أو ما يسميه جوزيف ناى وغيره بالقوة الذكية التى تعنى دمج كلا من صور وأدوات القوة الناعمة والقوة الصلبة معا فى استراتيجية واحدة).
ثم ينهى المؤلف كتابه بوضع وطرح بدائل وتقديم التوصيات لصناع القرار السياسى الخارجى الإماراتى من أجل التغلب على ما اسماه "المثبطات التى تعيق توسيع نفوذها وتحقيق مصالحها الوطنية المتمثلة فى العمل على جعل دولة الإمارات العربية المتحدة صاحبة المركز الأول فى كافة المجالات والقطاعات" على حد قول محمد بن راشد آل مكتوم.
وأحمد محمد أبوزيد، باحث ومحاضر مصرى مقيم فى دولة الإمارات العربية المتحدة منذ 2008. عمل كمحاضر للعلاقات الدولية والعلوم السياسية فى عدد من الجامعات الإماراتية. يشغل منصب مدير الأبحاث والتطوير بالمعهد الدولى للدبلوماسية الثقافية فى دبى منذ 2011، صدر له عدد من الكتب منها "السياسة الخارجية المصرية بعد ثورة 25 يناير" و"صعود وتراجع القوة الناعمة المصرية" و"العلاقات اليمنية – الخليجية"، ويقوم حاليا بالتدريس فى جامعة سانت اندروز بإسكتلندا حيث ينهى دراسته لدرجة الدكتوراه فى العلاقات الدولية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة