يظل الحكى القصصى تحديدا أداة من أدوات الحياة التى يمارس الإنسان صخبها كل لحظة، مشتبكا معها فى صراعاتها الداخلية التى تحاول أن تنهش بقايا روحه التى صارت بلا مأوى، تجلت هذه النزعات النفسية من خلال قراءة المجموعة القصصية "السرب" للكاتبة إيمان سند التى طرحت الكثير من أعمالها الأدبية وأنشطتها الثقافية الخاصة بالأطفال، وهذا هو ما يميز إحساسها بالإنسان بشكل عام.
جاءت المجموعة التى بين أيدينا (السرب) فى إحدى عشرة قصة قصيرة، تشكلت من خلال عناوين رومانسية لا فتة، بل تمتح من جراحاتها الذاتية الغائبة عن إحساس الآخرين بها، وهى (زهور اللبلاب ــ يحيى ـ الألم ــ بوح الصباح ــ فوات الأوان ــ آلهة لا تسكن الأوليمب ــ خلف النافذة ــ الحب تفاصيل صغيرة ــ طعم الحزن ــ قصتنا). ونلاحظ فى بنية العناوين السابقة انشغال الكاتبة بلحظات الحزن التى تكشف عن الحقيقة التى تبحث عنها فجاءت زهور اللبلاب التى تستدعى من ذاكرتنا الجمعية رواية شجرة اللبلاب للكاتب الكبير محمد عبد الحليم عبد الله، وتستدعى صورة الموت فى زوايا الحزن المقيم بأحلامنا. كما يكشف عنوان القصة عند سند عن علامات سيميائية تخفى وراءها أسرارا سردية كثيرة تصبح القصة فى متنها الكلى علاقة غامضة أحيانا.
ارتكزت إيمان سند فى عملية بناء هذه القصص على لغة سردية ذاتية ـ وهى لغة داخلية تكشف عن أطوار الذات وآلامها وملامحها الحاضرة و المسكوت عنها، فقط تمارس حياتها الحقيقية فى الخيال مبتعدة عن زيف الواقع وقسوته داخل العالم الذى تحيا فيه الذات بشكل حقيقى، فتقول "سند" مستدعية قول فرجينيا ساتير فى تصديرها لقصة زهور اللبلاب: " أقوى غريزة لدى البشر، هى غريزة جعل الأشياء مألوفة" تتجلى غريزة الكشف عن ما وراء الحياة، وكيف تصبح الحياة نفسها مألوفة يمكن للإنسان أن يتعايش بمحبة داخلها. ففى القصة الأول زهور اللبلاب تكشف الذات الساردة عن لحظات حزينة تهيمن على طريقة السرد القصير الذى تجلى من خلال بنية الجملة نفسها فتقول فى مطلع القصة: "تفر الأيام، وهى تبحث عنه، بداخلها طفلة بمقاييسها، تنهر نفسها دائما: لا تصلح معايير الأطفال لخوض الحياة".
تبدو حركة السرد داخل فضاء القصة، حركة مشتبكة مع روح الذات فجاءت مرتبكة، حائرة، قلقة لا تعرف لها هدفا واضحا فى الحياة، هى فقط تستمتع باللحظات التى تعيشها فقط. كما يحمل المقطع الفائت مفارقة واقعية واضحة أن معايير الأطفال لا تصلح لخوض معارك الحياة القاسية، تحاول إيمان سند فى قصصها بعامة أن تقبض على جوهر الألم الداخلى الذى يأكل خلايا المحبة للآخرين، فتقطع مسافة بعيدة كى تخلو بوحدتها.
ترتكز "سند" فى القصة الثانية بعنوان (يحيى) وهى قصة صوتية بالأساس بمعنى أنها تتحدث بصوت يحيى فتخلق تناصا واضحا ومربكا مع الشاعر العربى الكبير نزار قبانى فى قوله:
"كل الجنائز تبتدى من كربلاء، وتنتهى فى كربلاء، لن أقرأ التاريخ بعد اليوم، فأصابعى اشتعلت وأثوابى تغطيها الدماء"، إن استدعاء صوت نزار فى قصة يحيى يشى بالحزن الذى تحاول الذات الساردة أن تضفى عليها جراحات تراثية قديمة فى الذاكرة العربية (كربلاء التى قتل فيها الحسين عليه السلام فى حربه ضد بنى أمية). فتسرد الكاتبة حكاية الذات مع البطل يحيى الذى كانت مغرمة به فى وقت معين فتقول: "يصل للمكان المقصود بعد عناء، إنه يخص عائلته منذ زمن بعيد، كيف تاهت قدماه عنه..! ربما لأنه المكان الذى لا يرغب أحد فى الذهاب إليه إلا مضطرا يتسع الطريق كلما توغل فيه، رغم سيره بطريقة زجزاجية. مفيدة أحيانا تلك العربات الصغيرة حينما توكل إليها مهمة كتلك، يرى من بعيد سوادا متقطعا، وآخر متصلا، ورؤوسا تتصدر المشهد لا يستطيع فك طلاسمها" تطرح إيمان سند صورة الجنائز التى تغلف أبواق الفراغات الشاهقة، بل تصور مصيبة الموت بشكل لا يخلو من تقديس الحياة. يجلس يحيى وحيدا مستغرقا فى أحزانه كما جاء فى القصة، مستعيدًا ذكرياته معها (حبيبته) وكيف كان يشعر بالمحبة فى عينيها. وفى لحظة الموت تبكى الذات على ضياع هذه الذكريات المشتركة بينهما، وعند دفنها ترد إليها الحياة لتقول له: يحيى أنت لى وحدى"، إن المشهد السردى الأخير فى قصة يحيى، يحمل قدرا من عشق الأنثى لحبيبها، ورغبتها فى امتلاكه وحدها، فلا تقبل أن تشاركها فى حبيبها امرأة سواها.
أحمد الصغير أستاذ بكلية الآداب جامعة الوادى الجديد