زيارات متلاحقة يقوم بها وزير الخارجية الإيرانى محمد جواد ظريف إلى العديد من عواصم العالم، فى الأيام الماضية، استهلها بحضوره المفاجئ إلى مدينة بياريتس الفرنسية، محل انعقاد قمة مجموعة "السبع"، وذلك بالتزامن مع وجود الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، لتتبعها جولة آسيوية أخرى شملت العاصمة الصينية بكين، واليابانية طوكيو، وذلك لتحقيق هداف واضح، وهو مواصلة التنسيق مع القوى الدولية والإقليمية الفاعلة للعودة بالمفاوضات النووية إلى طاولة الحوار من جديد، والضغط على الولايات المتحدة لإلغاء -أو على الأقل- تخفيف عقوباتها المفروضة على الدولة الفارسية فى المرحلة الراهنة.
إلا أن زيارات ظريف ربما حملت رسائل ضمنية للإدارة الأمريكية، حملت فى جزء منها محاولات للتودد لواشنطن، بينما أظهرت فى جزء آخر قدرا مما يمكننا تسميته بـ"المروق"، بحيث تحتفظ الحكومة الإيرانية بقدر من المرونة الدبلوماسية، التى يمكن من خلالها تحقيق أهدافها، وعلى رأسها الخروج مجددا من المحاولات الأمريكية لعزلها عن محيطها الدولى والإقليمى، بينما تبقى فى الوقت نفسه على صورتها المناهضة لـ"الشيطان الأكبر"، عبر محاولة التحليق بعيدا عن الفلك الأمريكى، عبر التقارب مع خصوم واشنطن.
على هامش "السبع".. إيران "تكفر" بالقارة العجوز
فلو نظرنا إلى حضور وزير الخارجية الإيرانى إلى فرنسا تزامنا مع قمة السبع، نجد أنها كانت بمثابة الفرصة الأخيرة التى تمنحها طهران لشركائها فى أوروبا للتعويل عليهم فى إنقاذ ما تبقى من الاتفاق النووى، عبر الوساطة الفرنسية التى سعى الرئيس إيمانويل ماكرون إقناع نظيره الأمريكى بها، خلال لقائهما على هامش القمة، وهو الأمر الذى لم يدعمه الرئيس ترامب، ربما بسبب الخلافات الكبيرة سواء على المستوى الأيديولوجى، بسبب اعتناق الحكومة الفرنسية لمبادئ الوحدة الأوروبية، والتى تكفر بها الإدارة الأمريكية الحالية، من جانب، أو من حيث الموقف من القضية الإيرانية، والتى تبقى فيها واشنطن وباريس على طرفى النقيض.
ماكرون التقى وزير الخارجية الإيرانى على هامش قمة السبع
الجانب الفرنسى ربما لم يحظ بثقة الولايات المتحدة، لتحريك المياه الراكدة، فى ظل الدعم الفرنسى للاتفاق النووى، وهو ما يبدو واضحا فى الصيغة التى سعى ماكرون لتسويقها والتى تقوم فى الأساس على الإبقاء على الاتفاق النووى، ولو بصورة مؤقتة، مقابل عودة طهران لالتزاماتها النووية، وهو الأمر الذى ترفضه واشنطن بصورة كاملة، حيث إن الرئيس ترامب سبق له وأن أعلن عدة مرات عن رفضه التام للاتفاق الذى قاده سلفه باراك أوباما فى يوليو 2015، ووقعته الحكومة الإيرانية مع القوى الدولية الكبرى، مؤكدا أن هناك حاجة ملحة لإبرام اتفاقية جديدة تشمل قيودا إضافية إلى قدرات إيران العسكرية، بحيث تتجاوز المسألة النووية، لتمتد وتشمل صواريخها الباليستية، بالإضافة كذلك إلى التوقف عن السياسات التى تراها واشنطن مزعزعة لاستقرار المنطقة.
رهان إيرانى جديد.. ظريف يلوح بـ"عصا" الصين لمجابهة ترامب
وهنا يصبح الرفض الأمريكى للوساطة الفرنسية، هو بمثابة سقوط ورقة التوت الأخيرة فى الرهان الإيرانى على أوروبا، وذلك بعد شهور طويلة حاولت خلالها طهران الضغط بكل ما أوتيت من قوة على شركائها فى دول القارة العجوز، إما لإقناع واشنطن بالتراجع عن موقفها، أو الالتفاف على العقوبات الأمريكية، عبر إيجاد آلية جديد من شأنها التخفيف من تأثير العقوبات الأمريكية، خاصة على قطاع النفط الإيرانى، ليتحول الرهان الإيرانى الجديد نحو محيطها الإقليمى فى آسيا، عبر التحرك نحو الصين، والتى تعد أحد أطراف الاتفاق النووى، واليابان، والتى تمثل الوسيط المدعوم أمريكيا للانغماس فى القضية، وهو ما يفسر المحطات الأخيرة التى توقف عندها "قطار" ظريف فى أعقاب زيارته لفرنسا.
وزير الخارجية الإيرانى بجوار نظيره الصينى
يبدو أن زيارة ظريف إلى بكين هى بمثابة محاولة إيرانية للتلويح بالعصا الصينية فى وجه ترامب، وذلك مع استمرار تعنته تجاه طهران، حيث تسعى الحكومة الإيرانية للتأكيد على امتلاكها لأوراق المناورة الدولية، والتى يمكنها من خلالها التحرك، لمجابهة المحاولات الأمريكية لحصارها، عبر توطيد علاقتها مع الصين، والتى تشهد علاقتها مع الولايات المتحدة توترا كبيرا على خلفية الخلافات التى اندلعت بين البلدين فى الأشهر الماضية، والتى أشعلت شرارة حرب تجارية، ربما تأكل الأخضر واليابس، وبالتالى إيجاد بدائل تجارية واستثمارية للغرب، فى ظل حاجة الصين إلى مصادر نفط إضافية، وعلى رأسها إيران، بالإضافة إلى حاجتها إلى أسواق بديلة يمكن من خلالها تسويق منتجاتها التكنولوجية فى ظل احتمالات رضوخ أسواق الدول الحليفة لواشنطن لرغبة ترامب سواء حول فرض رسوم جمركية جديدة على المنتجات الصينية أو منع استقدام منتجاتها التكنولوجية، وهو ما قد يضع الاقتصاد الصينى كله فى مأزق.
على هامش التيكاد.. إيران تقبل شروط ترامب
ولكن تأتى المحطة الأخيرة لجولة ظريف الخارجية، فى العاصمة اليابانية طوكيو، ربما لتقدم رسالة مغايرة للولايات المتحدة، تقوم على محاولة التجاوب مع رغبة ترامب فى تهميش دول القارة العجوز، وقبول الوساطة اليابانية، من جديد، وهو ما بدا واضحا فى موقفه الرافض للوساطة الفرنسية، ودعمه الصريح للدور الذى يمكن أن تلعبه طوكيو.
ولعل المفارقة أن زيارة ظريف لطوكيو كانت متشابهة، من حيث ظروفها، إلى حد كبير من زيارته لفرنسا، حيث تزامنت مع انطلاق قمة دولية أخرى، وهى "التيكاد"، والتى تعقد حاليا فى طوكيو، إلا أنها فى الوقت نفسه تعكس ارتياحا إيرانيا للتوجه بالقضية الإيرانية نحو آسيا، كما أنه ربما يفتح الطريق أمام قبول إيرانى أوسع لمطالب ترامب، خاصة وأن اليابان ليست أحد الدول الموقعة على الاتفاقية النووية الأولى، وبالتالى فإن إدخالها على طريق التفاوض قد يقدم رسالة ضمنية مفادها أن طهران قد تقبل باتفاقية جديد بأطراف دولية جديدة.