امتلأت قاعة المحكمة المنعقدة فى «مقاطعة جنيف» بسويسرا بعدد كبير من المصريين على يمين المنصة يوم 29 سبتمبر، مثل هذا اليوم 1988».. كان معهم هذه المرة مجموعة من كبار رجال الإعلام الذين قدموا خصيصا من مصر، حسبما يؤكد المؤرخ الدكتور يونان لبيب رزق فى كتابه «طابا - قضية العصر».
كانت المناسبة هى الاستماع إلى حكم محكمة التحكيم الدولى فى القضية المتنازع عليها بين مصر وإسرائيل حول مدينة «طابا» ومساحتها «كيلو متر مربع».. كان «رزق» أحد أعضاء فريق الدفاع المصرى أمام المحكمة بقيادة الدكتور نبيل العربى الذى أصبح وزيرا للخارجية ثم أمينا عاما للجامعة العربية من عام 2011 إلى 2016.
أطلت معركة طابا برأسها فى أكتوبر 1981 خلال اجتماع الجانب المصرى مع الإسرائيلى لتفعيل انسحاب الجيش الإسرائيلى من سيناء.. «فى هذا الاجتماع اتفق الطرفان على كل العلامات الحدودية باستثناء العلامة 91 الخاصة بمدينة طابا، حيث رفض الوفد الإسرائيلى تنفيذ الانسحاب بشكل كامل، وتوسع الخلاف حتى شمل 13 علامة أخرى»، وفقا لرصد الزميل أحمد جمعة فى تقريره «30 عاما على استرداد طابا»، المنشور فى «موقع اليوم السابع الإلكترونى 19 مارس 2019».. يضيف جمعة: «أعلنت مصر فى مارس 1982 عن وجود خلاف مع الجانب الإسرائيلى حول بعض العلامات الحدودية، مؤكدة تمسكها بموقفها المدعوم بالوثائق الدولية والخرائط التى تثبت تبعية تلك المناطق للأراضى المصرية، وعقدت عدة اجتماعات رفيعة المستوى لبحث إيجاد حل للأزمة، لكن الأمور تعقدت بشكل أكبر بعد تعنت الإسرائيليين».
أمام هذا التعنت، طالبت مصر باللجوء إلى التحكيم الدولى كما تنص المادة السابعة من معاهدة السلام بين البلدين.. يذكر يونان لبيب رزق: «فى 13 مايو عام 1985 صدر قرار رئيس الوزراء بتشكيل اللجنة القومية العليا لطابا، وهى اللجنة التى تحولت بعد ذلك إلى «هيئة الدفاع المصرية فى قضية طابا».. يؤكد «رزق» أن الدكتور عصمت عبد المجيد، وزير الخارجية، هو صاحب فكرة اللجنة، وضمت «مجموعة من الرجال متنوعة الانتماءات والاهتمامات والتخصصات لفترة تزيد عن ثلاث سنوات، بين تشكيل اللجنة عام 1985 وصدور الحكم عام 1988». وقاد الدكتور نبيل العربى مدير الإدارة القانونية وقتئذ فى وزارة الخارجية «هيئة الدفاع المصرية» وكان «الوكيل عن جمهورية مصر العربية» أمام المحكمة.
يؤكد «رزق» أن الفريق عمل بمنطق «لا حس ولا خبر»، أى الحفاظ على سرية أعمالهم.. يكشف: «تعقب الجانب المصرى كل وثيقة تتصل بالقضية على مساحة زمنية بدأت منذ تشكيل اللجنة القومية فى مايو 1985، ولم تنته إلا مع الجولة الثانية من المرافعات الشفوية فى إبريل 1988».. يذكر رزق أنه بعد أربعة أشهر من الانتظار القلق، جاء يوم النطق بالحكم.. يصف مشهد المحكمة: «فى مواجهة المنصة جلس رئيس مقاطعة جنيف وسفراء الدول الذين دعوا إلى الحضور، وهم سفراء أمريكا وفرنسا والسويد، ولاحظ الصحفيون الأجانب أنه ساد الجلسة جو من الوقار أو الهيبة اللائقين، وأن المصريين رغم علمهم المسبق بفحوى الحكم لم يبد عليهم أى شكل من أشكال الفرحة الطاغية التى كانت تتملكهم فى الداخل».
يضيف رزق: «دخلت هيئة المحكمة يتقدمها رئيسها القاضى السويدى «جونار لاجرجرين» الذى جلس على مقعد المنضدة الأوسط، يتبعه القاضى الفرنسى «بيير بيليه» على يمنيه، والقاضى السويسرى «ديتريش شندلر» على يساره، وإلى يمين «بيليه» جلس القاضى المصرى الدكتور حامد سلطان، وإلى يساره «ديتريش» جلست القاضية الإسرائيلية الدكتورة «روث لابيدوث».. تلا مسجل المحكمة «دوجلاس ريخرت» موجز الحكم والحيثيات، وقراءة معارضة القاضى الإسرائيلى، روث لابيدوث»، واستغرق كل هذا ساعة واحدة، وقام رئيس المحكمة بتسليم أربع نسخ للنص الكامل لحيثيات الحكم، اثنتان لكل طرف.. تسلم عن مصر وكيلها الدكتور نبيل العربى، وعن إسرائيل وكيلها المستر «روبى سيبل».. يذكر رزق: «وكما نقلت كاميرات التليفزيون وقائع جلسة النطق بالحكم، نقلت فى نفس الوقت مظاهر الفرحة العارمة فى مصر، ومواكب الحزن البالغ على الجانب الإسرائيلى، خاصة بين أهالى إيلات والعاملين فى طابا».
لم يكن النطق بالحكم هو نهاية المطاف، فحسب نبيل العربى فى كتابه «طابا - كامب ديفيد - الجدار العازل».. «أنه بعد النطق بالحكم غضب عندما سأله أحد الصحفيين «وماذا الآن؟ لقد حكمت المحكمة لصالح مصر، ولكن تنفيذ الحكم يقتضى موافقة إسرائيل، فماذا سوف تفعل مصر؟».
رد «العربى» بأن إسرائيل إذا ما حاولت عدم تنفيذ الحكم ستكون «دولة» خارجة عن الشرعية ومنبوذة، وبعد مفاوضات ومحاولات مصرية قابلتها إسرائيل بالتعنت الشديد قرر رئيس الجمهورية، حسبما يروى العربى، الإدلاء بتصريح شديد اللهجة، يطالب إسرائيل بالانسحاب الفورى، ويعلن فيه أن مصر لن تقبل استمرار المماطلات والمناورات الإسرائيلية، وبعد مفاوضات تم التوصل إلى عقد ما سمى باتفاق روما التنفيذى فى 29 نوفمبر 1988، ونص على تحديد علامات الحدود الأربعة عشرة وفقا للحكم الصادر عن المحكمة، وعلى الانسحاب الإسرائيلى إلى ما وراء هذه العلامات فور تحديدها، وتم جلاء الإسرائيليين عن طابا فى 19 مارس 1989، ورفع العلم المصرى واعتبر هذا اليوم «عيد تحرير طابا».