أعلام ملونة حملها متظاهرو هونج كونج، فى الشوارع، من بينها العلم الأمريكى تارة، والبريطانى تارة أخرى، ليست للزينة، أو لإضفاء طابع جمالى للحراك الذى أطلقوه منذ أشهر، ولكن لدحض الهيمنة الصينية على الإقليم، والذى يتمتع بالحكم الذاتى، ولكنها محاولة صريحة لاستجداء التدخل الدولى، لينالوا حلم الاستقلال الكامل، ربما ليطرح تساؤلات عدة حول ما إذا كان رهان الشارع فى هونج كونج سوف يؤتى ثماره، أم أن الأمور ستتخذ منحى أخر، ربما لا يصب فى صالح ما يمكننا تسميتهم بـ"فريق النشطاء"، والذين اتجهوا إلى خيار العنف لتحقيق مطالبهم، فى المرحلة الراهنة، فى ظل العديد من المعطيات الدولية المتغيرة، وعلى رأسها اختلاف الرؤى الدولية إلى العديد من الأفكار النمطية التى اعتمدها المجتمع الدولى لعقود طويلة من الزمن.
ولعل حالة الاستقواء بالخارج ليست جديدة تماما على الدوائر الاحتجاجية فى هونج كونج، حيث كان الحنين إلى الاستعمار البريطانى سائدا إلى حد كبير فى العديد من الدوائر المعارضة للصين، حيث دائما ما كانوا يخرجون بالعلم القديم للإقليم، والذى يزينه علم المملكة المتحدة، بينما يعلن نشطاء أخرون مواقفهم علانية، والتى تدور حول إمكانية العودة من جديد إلى التاج البريطانى، وذلك بعد أكثر من 20 عام من الاتفاق الذى أبرمته الحكومة البريطانية مع الصين لإعادة الإقليم تحت سيطرة بكين، مقابل أن يتمتع بقدر من الحكم الذاتى، وهو الأمر الذى سمح إلى حد كبير للقوى الدولية، وخاصة بريطانيا، إلى ممارسة بعض الضغوط فى السنوات الماضية على الحكومة الصينية، لدعم الإقليم، وهو الأمر الذى مازال يراهن عليه نشطاء المدينة.
واقع جديد.. أزمات الداخل تهيمن على القوى الدولية الكبرى
إلا أن الواقع الدولى ربما شهد تغييرا جذريا، خاصة فى السنتين الأخيرتين، مع تفاقم الأزمات الدولية، التى تواجهها قوى الغرب، والتى طالما تشدقت بمبادئ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وفى القلب منها الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى، بسبب تفاقم أزمات الداخل، جراء الهجرة المتزايدة القادمة من العديد من دول العالم، بالإضافة إلى أزمة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى "بريكست"، والتى تمثل كابوسا سواء للمواطن البريطانى، والذى يخشى من تداعيات مثل هذه الخطوة على مستقبل الاقتصاد البريطانى، من جهة، أو للاتحاد الأوروبى بشكل عام، خاصة وأن الخطوة البريطانية ربما تمثل اللبنة الأولى فى انهياره فى المستقبل القريب من جانب أخر.
نشطاء هونج كونج يحملون الأعلام فى مظاهراتهم
أزمات الداخل فى الغرب طغت إلى حد كبير على الدور الذى يمكنه أن يلعبه دعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان من حكام الغرب، لفرض رؤيتهم على العالم الخارجى، وهو ما يبدو واضحا، على سبيل المثال فى خفوت الدور الفرنسى، بعد اندلاع مظاهرات السترات الصفراء والتى جاءت للاحتجاج على قرارات حكومية تخص الداخل الفرنسى، ليس فقط على مستوى القارة الأوروبية، فى ظل غياب الدعم الأمريكى، تحت إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، للاتحاد الأوروبى، ولكن أيضا على المستوى الدولى بشكل عام، وهو ما يبدو واضحا فى فشله الذريع فى القيام بدور الوساطة التى كان يتوق إليه، بين الولايات المتحدة وإيران.
صعود الشعبويين.. تحولات جذرية فى سياسات الغرب تجاه العالم
ويمثل صعود التيارات الشعبوية فى العديد من دول العالم، معضلة أخرى، فى ظل حالة الانكفاء على الداخل، التى صارت تكتنف قادة الغرب، حيث يبقى الهدف الرئيسى الذى يسعون إليه هو تحقيق متطلبات الداخل، وهو ما لا يقتصر على مجرد القوانين التى يقومون بإرسائها، أو السياسات التى يتبنوها فى الداخل، ولكنها تمتد كذلك إلى الدبلوماسية التى يعتمدونها تجاه دول العالم الأخرى، بحيث تنعكس بشكل مباشر على مصلحة المواطن، بعيدا عن تكريس هيمنة تيارات بعينها فى الدول الأخرى، بهدف تمكين الأيديولوجيات التى تتبناها التيارات الحاكمة فى الغرب.
مواطن يرتدى قناعا يوجه ترامب
فلو نظرنا إلى السياسات التى تبنتها قوى الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، فى مراحل سابقة، نجد أنها شهدت تحولات كبيرة، منذ نهاية الحرب الباردة، كانت تقوم فى البداية، على مناوئة ما يمكننا تسميتهم بالأنظمة المارقة، وحصارها اقتصاديا، على غرار كوريا الشمالية وإيران، وربما عسكريا، على غرار ما حدث مع العراق فى 2003، من أجل تمكين أنظمة ديمقراطية على الطراز الغربى، وهو النهج الذى فشل فشلا ذريعا، بل وساهم بصورة كبيرة فى انتشار الفوضى، بالإضافة إلى تهديد مصالحهم فى العديد من مناطق العالم، بالإضافة إلى استنزاف مواردهم الاقتصادية والعسكرية بصورة كبيرة، مما دفع إلى تغيير النهج الدولى، فى السنوات الأخيرة، عبر الانفتاح على تلك الدول، مقابل شروط تتعلق فى معظمها بطمأنة الداخل تجاه التهديدات التى تمثلها.
ولعل الانفتاح الغربى على إيران، عبر التوقيع على الاتفاق النووى الإيرانى فى يوليو 2015، وكذلك الانفتاح الأمريكى على كوريا الشمالية، مرتبطا إلى حد كبير بطمأنة العالم تجاه نوايا تلك الدول، والتى طالما كانت تمثل فزاعة لهم بسبب إمكاناتهم النووية، بالإضافة إلى وضع شروط جديدة من قبل الرئيس الأمريكى ارتبطت بمصير السجناء الأمريكيين، فى تلك الدول، وهو ما يمثل دليلا دامغا على التحول الكبير فى معايير التدخل الدولى فى شئون الدول الأخرى.
معضلة النشطاء.. دعاة الديمقراطية خارج إطار الزمن
وهنا تبدو معضلة النشطاء، فى هونج كونج، متمثل فى الخروج عن إطار الواقع الدولى الجديد، فى ظل رغبتهم الملحة فى الاستقواء بالقوى الدولية لتحقيق أهدافهم، فى الوقت الذى شهد فيه العالم معطيات جديدة، أصبحت ترتبط إلى حد كبير بمصلحة الداخل، من أجل الاحتفاظ بمقاعد السلطة، فى ظل تنامى الغضب الشعبى جراء السياسات التى تبناها القادة فى العقود السابقة، والتى ارتبطت إلى حد كبير بالتدخل لإعادة تشكيل الأنظمة فى الخارج لتصبح متوائمة معهم.
الرهان على أمريكا.. هل يجدى؟؟
يبدو أن فزاعة الاستقواء بالخارج الذى يحاول النشطاء الترويج لها لترهيب الحكام فى الداخل لم تعد تجدى إلى حد كبير، إلا أن الاستمرار على نفس النهج يمثل انعكاسا صريحا للفجوة الكبيرة التى يعانون منها، فى ظل التغير الكبير الذى يشهده المجتمع الدولى فى المرحلة الراهنة، مع تنامى الأزمات الدولية بصورة كبيرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة