حالة من الجدل أثارتها استقالة حكومة رئيس الوزراء الروسى ديمترى ميديفيديف، من منصبه، حيث كان القرار مفاجئا لكافة المتابعين للشئون الروسية، سواء فى الداخل أو الخارج، خاصة وأنها تمهد إلى ما يمكننا تسميته بـ"تغيير جذرى"، فى النظام السياسى فى موسكو، حيث اعتبره منتقدو الرئيس فلاديمير بوتين، بمثابة محاولة جديدة منه للبقاء فى السلطة، لما بعد انتهاء ولايته، والمقررة فى 2024، فى الوقت الذى نفى فيه الرجل نيته البقاء فى السلطة مرات عدة، كان آخرها فى لقائه مع محاربين خاضوا الحرب العالمية الثانية في سان بطرسبرج، حيث أعرب عن رفضه الكامل لفكرة بقاء الرؤساء فى مناصبهم مدى الحياة، معتبرا أن العودة لحقبة الثمانينات، عندما كان الزعماء يتمسكون بسلطاتهم، حتى أواخر أيامهم، يمثل خطرا كبيرا على مستقبل البلاد.
حديث بوتين يمثل إشارة صريحة إلى الإرث السوفيتى، والذى يعتبره الرئيس الروسى سببا رئيسيا لما سبق وأن أسماه بـ"أكبر كارثة جيوسياسية فى القرن العشرين"، وهى انهيار الاتحاد السوفيتى، وبداية حقبة الهيمنة الأحادية للولايات المتحدة، والتى انفردت بصدارة العالم فى أعقاب الحرب الباردة، والتى أفضت إلى انهيار الكتلة الشرقية بزعامة الاتحاد السوفيتى، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول الأهداف التى تسعى موسكو إلى تحقيقها، عبر الخطوات المرتقبة، والتى تحمل فى طياتها تغييرات أكبر، تتمثل فى تعديلات دستورية، من شأنها توسيع صلاحيات البرلمان فى روسيا فى المرحلة المقبلة.
"إرث لينين".. بوتين ينتصر لرؤية ستالين
وهنا تتجلى بوضوح معضلة "الإرث السوفيتى" فى عقل الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، ففى الوقت الذى يراه قطاع كبير من المحللين أنه أكثر المتحمسين لاستعادة ما يمكننا تسميته بـ"المجد الإمبراطورى" لموسكو، يبقى أكثر المنتقدين لسياسات الحقبة السوفيتية، حيث يعتبرها السبب الرئيسى وراء الانهيار، وبالتالى إخلال التوازن فى النظام الدولى، عبر تكريس نهج الأحادية الأمريكية، وهو الأمر الذى لا يعد جديدا، حيث سبق أن كال الانتقادات للنظام الشيوعى السوفيتى، معتبرا أن ربط عملية بناء الدولة بنشاط الحزب الشيوعى هو بمثابة الخطأ الأساسى الذى ارتكبه قياصرة موسكو إبان الحرب الباردة، والذى أدى إلى النهاية المأساوية للكتلة الشرقية فى أوائل التسعينات من القرن الماضى.
جثمان لينين المحنط
انتقادات بوتين لم تقتصر على مجرد سياسات الاتحاد السوفيتى، وإنما طالت رموزا تاريخية فى بلاده، وعلى رأسهم زعيم الثورة البلشفية فلاديمير لينين، والذى يصل احترام قطاع كبير من الروس له إلى حد التقديس، حيث يحتفظون بجثته محنطة بينما يحتفظون به فى ضريح فى الساحة الحمراء وسط العاصمة موسكو، حيث وصفه الرئيس الروسى بأنه كان "ثائرا أكثر منه رجل دولة"، فى تصريح يمثل انتقادا غير مسبوق لما يعتبره أنصار الشيوعية السوفيتية من "المقدسات".
يبدو أن الرئيس الروسى يرى أن النظام الكونفيدرالى الذى أقره لينين، بمثابة خطيئة كبرى لا تغتفر، ساهمت إلى حد كبير فى تغذية نزعة التمرد لدى الجمهوريات السوفيتية السابقة، وهو الأمر الذى أجاد استخدامه الغرب، لتفجير الاتحاد السوفيتى من الداخل عبر استخدام الحركات المتمردة لتأجيج الأوضاع، ليتبنى بوتين نفس الرؤية التى سبق وأن تبناها جوزيف ستالين، والذى رفض النهج "اللينينى" إلا أنه رضخ فى نهاية المطاف، وهو الأمر الذى يعكس التعاطف الذى طالما يبديه الرئيس الروسى مع ستالين، إلى الحد الذى دفعه إلى إلقاء اللوم على لينين عند حديثه عن القمع فى الحقبة الستالينية.
معضلة بوتين.. "الديمقراطية المتوازنة" طريق موسكو لاستعادة مكانتها الدولية
وهنا تصبح المعضلة الرئيسية التى يواجهها بوتين هى كيفية الخلاص من "إرث لينين" من جانب، تزامنا مع استعادة النفوذ التاريخى لروسيا، حتى يمكنها استعادة وضعها على صدارة النظام الدولى، ومناطحة النفوذ الأمريكى فى المرحلة المقبلة، وهو الأمر الذى تحقق بالفعل فى العديد من مناطق العالم، وعلى رأسها الشرق الأوسط، والتى نجحت فيها موسكو من استعادة قدر من نفوذها المفقود، عبر البوابة السورية، وكذلك أوروبا عبر توطيد العلاقات مع العديد من قيادات القارة العجوز، عبر التعاون فى مجال الطاقة، من جانب آخر.
استقالة ميديفيديف تفتح الباب أمام تعديلات دستورية
ولعل التعديلات المرتقبة فى الدستور الروسى، إثر التغيير الحكومى، تمثل امتدادا لرؤية بوتين، والتى تقوم على الانتقال ببلاده إلى ما يمكننا تسميته بـ"الديمقراطية المتوازنة"، والتى تهدف فى الأساس إلى إعداد روسيا إلى دور قيادى فى النظام الدولى الجديد، يقوم فى الأساس على احترام المؤسسات المنتخبة، خاصة وأن البرلمان سوف يصبح صاحب السلطة الوحيدة فى اختيار رئيس الحكومة والوزراء الذين سيتولون مختلف الحقائب الوزارية، وذلك على حساب الرئيس، وهو ما يمثل انقلابا صريحا على الإرث الديكتاتورى لموسكو، خلال حقبة الاتحاد السوفيتى، وربما بعد ذلك.
مفارقة جديرة بالملاحظة.. موسكو تمكن البرلمان فى زمن صراع المؤسسات
إلا أن المفارقة الجديرة بالملاحظة، هى أن روسيا تسعى إلى توسيع صلاحيات البرلمان، فى الوقت الذى تشهد فيه العديد من دول العالم، حالة من الصراع بين سلطاتها التنفيذية والتشريعية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والتى تشهد صراعا غير مسبوق بين الكونجرس والبيت الأبيض، على خلفية الحملات التى يخوضها الديمقراطيون لعزل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، والتى تشهد آخر جولاتها أمام مجلس الشيوخ فى المرحلة الحالية، وهو الأمر الذى دفع إلى حالة من التلاسن المتبادل بين الرئيس وخصومه الديمقراطيين، فى سابقة لم تشهدها دول المعسكر الغربى، لعقود طويلة من الزمن.
بوتين يتجه للديمقراطية المتوازنة فى زمن الصراع بين المؤسسات فى الغرب
يبدو أن رهان الرئيس بوتين على البرلمان يهدف إلى تقديم صورة مغايرة لموسكو، والتى طالما وصمها الغرب بـ"الديكتاتورية"، حيث يبقى توسيع صلاحيات البرلمان دليلا دامغا على رغبه كامنة، ولو نظريا، فى إرساء الفكر الديمقراطى داخل موسكو، تمهيدا لمرحلة جديدة، ينبغى أن تقوم فيها بلاده بدور أكبر على الساحة الدولية فى إطار ما يمكننا تسميته بـ"مرحلة توزيع النفوذ"، فى حقبة تبدو قريبة للغاية يتم فيها إرساء نظام دولى جديد.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة