عاد الملك فاروق من رحلته الصيفية إلى أوروبا، فوجد فى انتظاره مذكرة تحذره من انحدرا الأحوال فى مصر، موقعة من أقطاب المعارضة بتاريخ 18 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1950، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى كتابه: «مقدمات ثورة 23 يوليو 1952».
كان الدكتور محمد حسين هيكل باشا، رئيس حزب الأحرار الدستوريين، ورئيس مجلس الشيوخ «من 1945 إلى يونيو 1950» ضمن الموقعين على المذكرة، ويكشف فى الجزء الثانى من مذكراته، «مذكرات فى السياسة المصرية» قصتها، والظروف التى أدت إلى كتابتها، يذكر أن «فاروق» سافر إلى أوروبا متنكرا باسم «فؤاد باشا المصرى»، وجعل مقره الرئيسى فى مصيف «دوفيل» بفرنسا، وجعل نادى هذه المدينة مكان سمره وسهره ولعبه القمار، وأوفدت صحف فرنسا وأوروبا وأمريكا مراسيلها لموافاتها بأنباء الملك ومغامراته، يذكر هيكل باشا: «أخذت الصحف فى أرجاء العالم تنشر أنباء الملايين التى يكسبها فاروق أو يخسرها على مائدة القمار، وأنباء الحفلات التى تقام لمسرته، وأنباء مغامراته».
يؤكد هيكل باشا: «أثمرت هذه الدعاية حتى كان المصريون المصطافون بأوروبا يخجلون فلا يذكرون جنسيتهم لمن يسألهم عنها، ولمست ذلك بنفسى إذ كنت عائدا من مؤتمر الاتحاد البرلمانى الدولى الذى عقد بدبلن عاصمة أيرلندا، واطلعت فى مجموعة الصحف الفرنسية عند أحد أصدقائى المصريين على طائفة من المقالات والصور التى نشرت عن فاروق فطأطأت رأسى، واطلعت كذلك على بعض المجلات الأمريكية فإذا تنشر عن حوادث فاروق وتصفه بأقبح الصفات، ورأيت فى بعض مشارح باريس تعريضا بالملك الشاب ومغامرات يندى لها الجبين».
عاد هيكل باشا إلى القاهرة، ففوجئ بالحديث عن فضائح فاروق فى أوروبا، بالرغم من منع الوزارة لدخول الصحف الأجنبية إلى مصر أو تمزيق الصفحات التى تنشر هذه الفضائح، تزامن ذلك مع الضجة التى أثيرت حول الأسلحة الفاسدة التى استخدمها جنودنا فى حرب فلسطين 1948، يذكر أنه أمام كل ذلك تداول الأمر مع أقطاب المعارضة، فاتفقوا على رفع مذكرة إليه وأبلغوا بها الديوان الملكى.
جاء فى المذكرة: «اليوم تجتاز البلاد مرحلة قد تكون من أدق مراحل تاريخها الحديث، ومن أسف أنها كلما اتجهت إلى العرش فى محنتها حيل بينه وبينها، لا لسبب إلا لأن الأقدار قد أفسحت مكانا فى الحاشية الملكية لأشخاص لا يستحقون هذا الشرف، فأساءوا النصح وأساءوا التصرف، بل إن منهم من حامت حول تصرفاتهم ظلال كثيفة من الشكوك والشبهات، هى الآن مدار التحقيق الجنائى الخاص بأسلحة جيشنا الباسل، حتى ساد الاعتقاد بين الناس أن يد العدالة ستقصر حتما عن تناولهم بحكم مراكزهم، كما ساد الاعتقاد من قبل أن الحكم لم يعد للدستور، وأن النظام النيابى قد أضحى حبرا على ورق منذ أن عصفت العواصف بمجلس الشيوخ فصدرت مراسيم يونيو 1950 التى قضت على حرية الرأى فيه، وزيفت تكوين مجلسنا الأعلى كما زيفت الانتخابات الأخيرة من قبل تكوين مجلس نوابنا.
ومن المحزن أنه قد ترددت على الألسن والأقلام داخل البلاد وخارجها أنباء هذه المساوئ وغيرها من الشائعات الذائعات، التى لا تتفق مع كرامة البلاد، حتى أصبحت سمعة الحكم المصرى مضغة فى الأفواه، وأمست صحافة العالم تصورنا فى صورة شعب مَهين يساق كما تساق الأنعام، لقد كان حقا على حكومتكم أن تصارحكم بهذه الحقائق، ولكنها درجت فى أكثر من مناسبة على التخلص من مسؤوليتها الوزارية بدعوى التوجيهات الملكية وهو ما يخالف روح الدستور وصدق الشعور، ولو أنها فطنت لأدركت أن الملك الدستورى يملك ولا يحكم، إن تحمل الشعب مهما يطول لا بد منتهٍ إلى حد له، وإننا لنخشى أن تقوم فى البلاد فتنة لا تصبن الذين ظلموا وحدهم، بل تتعرض فيها البلاد إلى إفلاس مالى وسياسى».
وقع على هذه المذكرة: «إبراهيم عبدالهادى، ومحمد حسين هيكل، مكرم عبيد، وحافظ رمضان، وعبدالسلام الشاذلى، وطه السباعى، مصطفى مرعى، وعبدالرحمن الرافعى، ودسوقى أباظة، وأحمد عبدالغفار، وعلى عبدالرازق، ورشوان محفوظ، وحامد محمود، ونجيب إسكندر، وزكى ميخائيل بشارة، السيد سليم».
يذكر هيكل باشا: «منعت الوزارة نشر هذا الكتاب وصادرت الصحف التى نشرته، واتهم النحاس باشا موقعيه بأنهم مجرمون، وهدد بأنه لن يسكت عن هذا الإجرام السافر، ومنعت الوزارة تداول النسخ التى كانت تطبع منه، وأمرت بالقبض على موزعيها، وغضب الملك على الذين وقعوا هذا الكتاب أشد الغضب، واحتفظ بأصله فى حافظة جيبه مخافة أن تتنازعه يوما فكرة التسامح معهم، فتصدها تلاوته عن الاستجابة إلى مثل هذه النزعة».