كيف بدأ المسلمون فى التأريخ لـ أيامهم وأحداثهم، ولماذا اختاروا سنة الهجرة لتكون البداية التى ينطلقون منها لمعرفة تاريخهم؟ هذا ما سنعرفه من خلال التراث الإسلامى.
يقول كتاب "البداية والنهاية" لـ الحافظ ابن كثير تحت عنوان "وقائع السنة الأولى من الهجرة":
اتفق الصحابة رضى الله عنهم فى سنة ست عشرة، وقيل: سنة سبع عشرة، أو ثمانى عشرة - فى الدولة العمرية على جعل ابتداء التاريخ الإسلامى من سنة الهجرة، وذلك أن أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه رفع إليه صك - أى: حجة - لرجل على آخر، وفيه: إنه يحل عليه فى شعبان.
فقال عمر: أى شعبان؟ أشعبان هذه السنة التى نحن فيها أو السنة الماضية، أو الآتية؟
ثم جمع الصحابة فاستشارهم فى وضع تاريخ يتعرفون به حلول الديون وغير ذلك.
فقال قائل: أرخوا كتاريخ الفرس فكره ذلك وكانت الفرس يؤرخون بملكوهم واحدا بعد واحد.
وقال قائل: أرخوا بتاريخ الروم. وكانوا يؤرخون بملك اسكندر بن فلبس المقدونى فكره ذلك.
وقال آخرون: أرخوا بمولد رسول الله ﷺ، وقال آخرون: بل بمبعثه، وقال آخرون: بل بهجرته.
وقال آخرون: بل بوفاته عليه السلام.
فمال عمر رضى الله عنه إلى التاريخ بالهجرة لظهوره واشتهاره واتفقوا معه على ذلك.
وقال البخارى فى (صحيحه): التاريخ ومتى أرخوا التاريخ.
حدثنا عبد الله بن مسلم، ثنا عبد العزيز، عن أبيه، عن سهل بن سعد قال: ما عدوا من مبعث النبى ﷺ ولا من وفاته، ما عدوا إلا من مقدمه المدينة.
وقال الواقدي: حدثنا ابن أبى الزناد، عن أبيه قال: استشار عمر فى التاريخ فأجمعوا على الهجرة.
وقال أبو داود الطيالسي، عن قرة بن خالد السدوسي، عن محمد بن سيرين قال: قام رجل إلى عمر فقال: أرخوا.
فقال: ما أرخوا؟
فقال: شيء تفعله الأعاجم يكتبون فى شهر كذا من سنة كذا.
فقال عمر: حسن فأرخوا.
فقالوا: من أى السنين نبدأ؟
فقالوا: من مبعثه، وقالوا: من وفاته.
ثم أجمعوا على الهجرة.
ثم قالوا: وأى الشهور نبدأ؟
قالوا: رمضان.
ثم قالوا: المحرم، فهو مصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام فاجتمعوا على المحرم.
وقال ابن جرير: حدثنا قتيبة، ثنا نوح بن قيس الطائي، عن عثمان بن محصن: أن ابن عباس كان يقول فى قوله تعالى: { وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ } [الفجر:1-2] : هو المحرم فجر السنة.
وروى عن عبيد بن عمير قال: إن المحرم شهر الله وهو رأس السنة يكسى البيت، ويؤرخ به الناس، ويضرب فيه الورق.
وقال أحمد: حدثنا روح بن عبادة، ثنا زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار قال: إن أول من ورخ الكتب يعلى بن أمية باليمن، وأن رسول الله ﷺ قدم المدينة فى ربيع الأول وأن الناس أرخوا لأول السنة.
وروى محمد بن إسحاق، عن الزهري، وعن محمد بن صالح، عن الشعبى أنهما قالا: أرخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم، ثم أرخوا من بنيان إبراهيم وإسماعيل البيت، ثم أرخوا من موت كعب بن لؤي، ثم أرخوا من الفيل، ثم أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة وذلك سنة سبع عشرة - أو ثمانى عشرة - وقد ذكرنا هذا الفصل محررا بأسانيده وطرقه فى السيرة العمرية ولله الحمد.
والمقصود: أنهم جعلوا ابتداء التاريخ الإسلامى من سنة الهجرة، وجعلوا أولها من المحرم فيما اشتهر عنهم وهذا هو قول جمهور الأئمة.
وحكى السهيلى وغيره عن الإمام مالك أنه قال: أول السنة الإسلامية ربيع الأول لأنه الشهر الذى هاجر فيه رسول الله ﷺ.
وقد استدل السهيلى على ذلك فى موضع آخر بقوله تعالى: { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم } أي: من أول يوم حلول النبى ﷺ المدينة، وهو أول يوم من التاريخ كما اتفق الصحابة على أول سنى التاريخ عام الهجرة.
ولا شك أن هذا الذى قاله الإمام مالك رحمه الله مناسب، ولكن العمل على خلافه، وذلك لأن أول شهور العرب المحرم فجعلوا السنة الأولى سنة الهجرة، وجعلوا أولها المحرم كما هو المعروف لئلا يختلط النظام والله أعلم.
فنقول وبالله المستعان: استهلت سنة الهجرة المباركة ورسول الله ﷺ مقيم بمكة، وقد بايع الأنصار بيعة العقبة الثانية كما قدمنا فى أوسط أيام التشريق وهى ليلة الثانى عشر من ذى الحجة قبل سنة الهجرة.
ثم رجع الأنصار وأذن رسول الله ﷺ للمسلمين فى الهجرة إلى المدينة فهاجر من هاجر من أصحابه إلى المدينة حتى لم يبق بمكة من يمكنه الخروج إلا رسول الله ﷺ، وحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ﷺ ليصحبه فى الطريق كما قدمنا ثم خرجا على الوجه الذى تقدم بسطه.
وتأخر على بن أبى طالب بعد النبى ﷺ بأمره ليؤدى ما كان عنده عليه السلام من الودائع، ثم لحقهم بقباء فقدم رسول الله ﷺ يوم الاثنين قريبا من الزوال وقد اشتد الضحاء.
قال الواقدى وغيره: وذلك لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول.
وحكاه ابن إسحاق إلا أنه لم يعرج عليه ورجَّح أنه لثنتى عشرة ليلة خلت منه، وهذا هو المشهور الذى عليه الجمهور.
وقد كانت مدة إقامته عليه السلام بمكة بعد البعثة ثلاث عشرة سنة فى أصح الأقوال، وهو رواية حماد بن سلمة عن أبى جمرة الضبعى عن ابن عباس.
قال: بعث رسول الله ﷺ لأربعين سنة، وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة.
وهكذا روى ابن جرير، عن محمد بن معمر، عن روح بن عبادة، عن زكريا بن إسحاق، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قال: مكث رسول الله ﷺ بمكة ثلاث عشرة.
وتقدم أن ابن عباس كتب أبيات صرمة بن أبى أنس بن قيس:
ثوى فى قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا
وقال الواقدي: عن إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه استشهد بقول صرمة.
ثوى فى قريش بضع عشرة حجة * يذكر لو يلقى صديقا مواتيا
وهكذا رواه ابن جرير، عن الحارث، عن محمد بن سعد، عن الواقدى خمس عشرة حجة، وهو قول غريب جدا.
وأغرب منه ما قال ابن جرير: حدثت عن روح بن عبادة، ثنا سعيد، عن قتادة قال: نزل القرآن على رسول الله ﷺ ثمانى سنين بمكة، وعشرا بالمدينة.
وكان الحسن يقول: عشرا بمكة، وعشرا بالمدينة، وهذا القول الآخر الذى ذهب إليه الحسن البصرى من أنه أقام بمكة عشر سنين ذهب إليه أنس بن مالك وعائشة وسعيد بن المسيب وعمرو بن دينار فيما رواه ابن جرير عنهم.
وهو رواية عن ابن عباس رواها أحمد بن حنبل، عن يحيى بن سعيد، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس:
قال: أنزل على النبى ﷺ وهو ابن ثلاث وأربعين، فمكث بمكة عشرا.
وقد قدمنا عن الشعبى أنه قال: قرن إسرافيل برسول الله ﷺ ثلاث سنين يلقى إليه الكلمة والشيء، وفى رواية: يسمع حسه ولا يرى شخصه، ثم كان بعد ذلك جبريل.
وقد حكى الواقدى عن بعض مشايخه: أنه أنكر قول الشعبى هذا، وحاول ابن جرير أن يجمع بين قول من قال إنه عليه السلام أقام بمكة عشرا، وقول من قال ثلاث عشرة بهذا الذى ذكره الشعبى والله أعلم.