كلما تحدث المسئولون فى تركيا عن الإسلام ابحث عن "المستفيد"، فالنظام هناك منذ قديم لم يعرف أبدا التحرك من أجل الدين، لكنه عرف جيدا كيفية الاستفادة منه، ولعل ما يحدث الآن من أزمة بين "فرنسا والعالم الإسلامي" وتدخل الحكومة التركية يدفعنا للحديث عن تاريخ الدولة العثمانية وصولا إلى أردوغان في استغلال الدين.
توسعات استعمارية
"الدولة العثمانية فى توسعاتها اعتمدت بالأساس على التجارة بالدين ولجأت للقتل والاستعمار والدمار واستغلال الدين فى هذه التوسعات الاستعمارية.. كما أن استغلال الدين والتجارة به صفة تلاحق الدولة التركية منذ نشأتها من عمق التاريخ وهو ما يمثله أردوغان وحزبه خاصة بعد ارتباطهما بعلاقة قوية مع الإخوان"، من هذا المنطلق وصف المحلل السياسى التركى فايق ديلو السياسات التركية منذ أيام سلاطين الدولة العثمانية وحتى ولاية الديكتاتور التركى الحالى رجب طيب أردوغان.
كانت الدولة العثمانية دولة حرب استعمارية غازية، تتاجر باسم الدين فى غزوتها لتصبغها بصبغة الفتوحات الإسلامية، فكان لا بد من صدور فتوى من شيخ الإسلام تسبق أو تصحب إعلان الحرب وخروج القوات المسلحة للقتال، وكان سلاطين العثمانيين لا يقدمون على الحرب دون صدور فتوى منه يقرر فيها أن أهداف هذه الحرب لا تتعارض مع الدين، وكانت أحكام المفتى نهائية لا معقب عليها، وكان الجهاز الإسلامى المنبث فى جسم الدولة يضم الأشراف وهم الذين ينحدرون من سلالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان نقيب الأشراف يحتل مكانة عالية فى المجتمع.
استغلال الدين
الحقيقة التاريخية الثابتة هى أن السياسات العثمانية كثيرا ما استغلت الدين من أجل تحقيق مكاسبها، ورفعت راية التجارة بالدين، فى الوقت التى تركت فيه الدول العربية والإسلامية التى شهدت مجدا كبيرا فى بدايات عصر الدولة العباسية، تعانى من الفقر، والتدخلات الأجنبية، وفى كتابه (ظهور تركيا الحديثة) لـ برنارد لويس، فإن سلاطين العثمانيين ربطوا أنفسهم بالإسلام كما لم تفعل أى قومية إسلامية أخرى.
توسع العثمانيون فى أوروبا، ثم أغاروا على المنطقة العربية فى القرن السادس عشر وانتصروا على المماليك، فالعثمانيون كانوا دولة إسلامية وانتصروا على دولة إسلامية، وهذا لا يعد فتحا بل غزوا واحتلالا.
كما أوضح الكتاب السابق أنه عقب انتصارهم ارتكب العثمانيون فظائع إنسانية، فقتلوا الآلاف من المصريين والعرب فى مذابح جماعية، وعلقوا جثث قادة المماليك فى الشوارع، بينهم طومان باى، ونهبوا المنازل والمتاجر، ومثلوا بجثث القتلى.
فتاوى الدم
عند فتح القسطنطينية أصدر فخر الدين عشرات الفتاوى التى مكنت السلطان محمد الفاتح من إعدام الإمبراطور البيزنطى وكبار قادة الجيش وصفوة رجال المدينة، إضافة للسماح له بأخذ نسائهم جوارى له.
كما باركت القوانين البيزنطية التى أصدرها السلطان العثمانى تحت اسم "قانون نامه سى"، وبلغ عددها 75 تشريعا، وأصدر فتوى تؤكد أن تلك القوانين الجديدة توافق إجماع المذاهب الإسلامية الأربعة، كما أباح رسم صور السلطان، وتعليقها على جدران القصر، فى الوقت الذى كان التصوير محرما وفق إجماع شيوخ الإسلام، فى حين حرمها على العامة، وأفتى بتكفير المصورين والرسامين خارج نطاق القصور العثمانية، وحذر من يقدم على ذلك بالإعدام فوق الخازوق.
وأصدر الشيخ على بن أحمد المعروف باسم زنبيلى أفندى، فتوى تجيز قتل الشيعة بالسلطنة، فأمر سليم بحصر عدد الشيعة فى الولايات المتاخمة لبلاد فارس بشرق الأناضول وقتلهم جميعا عام 1513، وبلغ عددهم 40 ألفا من قبائل القزلباش، ثم أفتى بإعدام أسرى معركة جالديران والتمثيل بجثثهم.
كما أفتى أبو السعود أفندى بقتل الإيزيديين، فشن سليمان القانونى حملة عليهم عام 1564، راح ضحيتها الآلاف وسبى نساءهم، كما ساعد فى تحليل الربا لدعم اقتصاد الدولة وقتها وصدرت الفتوى فى كتاب أطلق عليه "رسالة فى جواز وقف النقود"، تحايل فيها على النصوص الفقهية.
وبحسب المفكر السورى ساطع الحصرى فى كتابه "البلاد العربية والدولة العثمانية" فإن الأيديولوجيا الدينية ورجال الدين المسلمين كانوا ركناً مهماً من أركان الدولة العثمانية، ويؤكد أن السلاطين العثمانيين الذين كانوا يمدون يدهم إلى رجال الدين ويسعون إلى استرضائهم، قد استخدموهم فى بسط نفوذهم وسيطرتهم على البلاد العربية، فكان الدين ستاراً يغطون به على ما لهم من سلطة مطلقة، "فيحاولون أن يدعموا أعمالهم ويبرروا تصرفاتهم بفتاوٍى شرعية يستحصلونها من هؤلاء.
وكان السلطان العثمانى يتمتع بسلطات مطلقة، لا يحدها أى حد، والأمر يصدر من بين شفتيه كان يكفى لإعدام الأشخاص، ومصادرة أموالهم دون محاكمة وسؤال، وفى الواقع فإن أعمالهم كانت تبدو مقيدة -بصورة نظرية - بأحكام الشريعة الإسلامية، إلا أن رجال الدين قلما كانوا يتأخرون عن إيجاد الأحكام وإصدار الفتاوى التى تخدم مآرب السلاطين، وتضفى على أوامرهم وتصرفاتهم صفة شرعية".
سلاطين العثمانيين لم يحج منهم أحد
والغريب أنه على مدار نحو 6 قرون تولى سلطنة الدولة العثمانية 36 سلطانا، لم يقم أحدهم بأداء فريضة الحج ولا مرة، بل إن السلطان محمد خان الثانى، الشهير بـ"الفاتح" والذى يروج له أن النبى محمد - صلى الله عليه وسلم - تنبأ بمجيئه لم يقم بأداء الفريضة ولا مرة ولم يذكر أنه أناب أحدا عنه، واعتاد المسلمون رؤية خلفائهم وسلاطينهم فى ملابس الإحرام عبر تلك القرون المتطاولة، حتى انقطع ذلك أخيرًا بسقوط العالم العربى فى قبضة العثمانيين، إذ قضت السلطنة العثمانية أربعمائة عامًا كاملة تحكم مكة المكرمة حكمًا مطلقًا، كما حمل سلاطينها لقب خادم الحرمين الشريفين بعد أن ورثوه من المماليك، ورغم ذلك لم يجسر سلطان عثمانى واحد على أداء الحج.
وكانت الوكالة الرسمية التركية، اعترفت فى وقت سابق بأن 33 سلطانًا عثمانيًّا لم يحاولوا الحج أصلاً، إلا أنها زعمت أيضًا أن ثلاثة آخرين أرادوا الحج لكنهم لم يتمكنوا من الوصول للأراضى المقدسة لأسباب مختلفة، وبررت إحجام السلاطين عن رحلة الحج بالقول إنها كانت طويلة، والغياب عن السلطنة أشهرًا كان يعرضها للخطر، كما أنهم انشغلوا بالصراعات مع العدو الخارجى، ومن ثمّ أفتى لهم علماؤهم بعدم الذهاب للحج وأجزاء النيابة.
ولم يشتهر أهم السلاطين والأمراء العثمانيين إلا بالتنافس على امتلاك الجوارى، وبإعدام أشقائهم وأبنائهم، وتم وصفهم بالهمجية والبربرية فى وثائق التاريخ؛ إذ كان قتل الإخوة مباحًا للظفر بالسلطنة، ومشرعًا بشكل قانوني، وكان لذلك آليات معتمدة ووسائل مباحة.
والآن اعتاد الرئيس التركى أردوغان الكذب بالأحداث التاريخية لخلق زعامة واهية، يحاول أيضا استغلال "ورقة المساجد" فى الداخل التركى لتحقيق مكاسب سياسية وإنقاذ شعبيته المترنحة نتيجة وباء كورونا والانهيار الاقتصادى فى بلاده.
ومن أكثر الأمثلة الدالة على ذلك، هو تحويله كنيسة "آيا صوفيا" إلى مسجد لتهدئة الطائفة المتدينة من الشعب التركى ولمغازلة الناخبين.