من مصادر التشريع الإسلامى القياس، لكن كيف نظر إليه الفقهاء، كيف عرفوه، وتعاملوا معه، هل أقروه بالمطلق أم اختلفوا فيه؟
ونعتمد فى معلوماتنا على دار الإفتاء المصرية، والتي تبدأ حديثها بأن علم الأصول يشتمل على أقسام عدة، لعل أهمها هو قسم الأدلة، إذ فى هذا القسم من أقسام علم الأصول يتبين للدارس المصادر التى يتوجه إليها طالب الحكم الشرعى، ليستخلص منها مطلوبه، ويظفر فيها ببغيته.
وهذه الأدلة تنقسم إلى قسمين:
1- الأدلة المتفق عليها.
2- الأدلة المختلف فيها.
أما الأدلة المتفق عليها، فهى: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس.
وقد نازع البعض فى حجية الإجماع والقياس، لكنَّ رأيهم شاذ غير معتبر، لضعف ما استندوا إليه، ومخالفته أصول أهل السنة.
وليس كل خلاف جاء معتبرًا إلا خلاف له حظ من النظر، وأما الأدلة المختلف فيها، فهى التى اعتد بها بعض الأصوليين فى إظهار الأحكام الشرعية، ولم يعتد بها بعضهم الآخر، ومنها: الاستحسان، وشرع من قبلنا... إلخ.
نخلص من هذا إلى أنَّ من الأدلة المتفق عليها: القياس.
تعريف القياس:
القياس فى اللغة يطلق على: التقدير، والمساواة.
تقول: قست الثوب بالذراع، أى: قدرته به.
وتقول: فلان لا يقاس بفلان، أى: لا يساوَى به.
وأما فى اصطلاح العلماء فقد عرف ابن الحاجب القياس بأنه:
"مساواةُ فرعٍ الأصلَ فى علةِ حكمه".
ومعنى التعريف: أن يكون لدينا فعل من أفعال المكلفين نص الشارع على حكمه، كتناول الخمر مثلًا، حيث نص الشرع على حرمته، وفعلٌ آخر لم ينص الشارع على حكمه بخصوصه، إلا أنه يشتمل على وصف مشترك بينه وبين الفعل الذى نص الشارع على حكمه، وهذا الوصف المشترك يناسب حكم الفعل المنصوص عليه، فنحكم على الفعل الذى لم ينص عليه بنفس حكم الفعل المنصوص عليه بسبب وجود الوصف المناسب فى كلا الفعلين.
ومثال ذلك: تناول "البيرة"، فهو فعل لم ينص الشارع عليه بخصوصه، لكنا لما تأملنا فى أوصاف "البيرة" وجدنا أن منها وصف: الإسكار، ووجدنا أن وصف الإسكار موجود فى الخمر الذى نص الشارع على حرمته، ووجدنا أن وصف الإسكار هو الوصف الوحيد من أوصاف الخمر الذى يناسب كونه حرامًا ومحظورا، لما يترتب على الإسكار من مفاسدَ لا تخفى على عاقل، حتى استحق الخمر أن يسمى: "أم الخبائث"، فجعلنا الإسكار هو العلة فى تحريم الخمر، لأنه الوصف المناسب الذى يظهر من تعليل حرمة الخمر به حكمةُ الشارع -سبحانه وتعالى- فى تحريم الخمر، ولما وجدنا "البيرة" تشترك مع الخمر فى علة الإسكار، تعين علينا أن نحكم عليها بنفس حكم الخمر، إذ لا فرق مؤثرًا بينهما.
موقع القياس من أدلة الشرع:
القياس هو المصدر الرابع من مصادر التشريع الإسلامى بعد الكتاب، والسنة، والإجماع.
والإجماع - فى مجمله - حجة قطعية عند الجمهور، بخلاف القياس، فإنه دليل ظنى، فى الأعم الأغلب، لابتنائه على إعمال النظر والاجتهاد، والدليل القطعى أعلى مرتبة من الدليل الظنى هذا هو الترتيب بين القياس والإجماع من حيث المرتبة، وأما من حيث التاريخ -أعنى أسبقية العمل- فالعمل بالقياس سابق على العمل بالإجماع، لأنَّ العمل بالقياس قد جرى فى حياة النبى - صلى الله عليه وسلم -، وأما الإجماع، فلم ينعقد أصلًا فى حياته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن العمل به فى حياته لا فائدة منه مع نزول الوحى بأحكام الوقائع.
مكانة القياس فى التشريع الإسلامي:
لا يفهم من الكلام السابق - فى بيان تأخر مرتبة القياس عن الأدلة الثلاثة - أن هذا يقلل من أهمية القياس؛ بل الغرض من البحث السابق بيان موقع القياس بين أدلة الشرع الحنيف، فكان لا بد من ترتيبها بحسب قوتها فى الدلالة على الأحكام.
ولما كانت الأدلة الثلاثة -أعني: الكتاب والسنة والإجماع- أقوى فى الدلالة، كان لا بد من تأخير القياس عنها، وليس فى هذا تقليل لأهميته، بل القياس ذو خطر عظيم ومنصب جليل فى هذه الشريعة الغراء؛ إذ هو عكاز الفقيه الذى يتوكأ عليه إذا لم يجد نصًّا فى المسألة التى يريد معرفة الحكم الشرعى فيها، ولا إجماع يبين هذا الحكم.
إذا أعيا الفقيهَ وجودُ نص تعلق لا محالة بالقياس، ولولا القياس، لبقيت كثير من الوقائع المستجدة - بعد عصر التنزيل - بلا حكم يبين مراد الله فيها.
أركان القياس:
القياس له أركان أربعة على المشهور، هي:
الأصل الذى يقاس عليه، كالخمر مثلا، فهو أصلٌ قيس عليه كل مُسكِر من المسكرات التى لم يُنصَّ عليها فى الكتاب والسنة.
والفرع الذى يقاس على الأصل، ويأخذُ حكمَه: كالنبيذ، الذى قيس على الخمر فى الحرمة.
وحكم الأصل الذى ينسحب على الفرع فى القياس، كالحرمة، فهى الحكم الشرعى لتناول الخمر، وبيعه....إلخ.
والعلة المشتركة، الجامعة بين الأصل والفرع، والتى توجب انتقال حكم الأصل للفرع: كالإسكار، فهو الوصف المشترك بين الخمر والنبيذ، وبسبب الاشتراك فيه وكونِه مناسبًا للحرمة - انتقل حكم الخمر إليه، فقلنا: النبيذ حرام، قياسا على الخمر، بجامع اشتراكهما فى علة الإسكار.
أهمية العلة فى القياس:
تعد العلة أهم الأركان الأربعة للقياس، حتى إنَّ من الأصوليين مَن جعل العلة هى ركن القياس الأوحد، وجعل ما عداها شروطًا للقياس، لا أركانًا.
ومكمن أهمية العلة: أنها سبب إمكان تعدى مثل الحكم من الأصل إلى الفرع؛ إذ الذى يوجب ذلك التعدى هو اشتراكهما فى العلة.
يضاف إلى هذا أنَّ ترتيب الشارع الحكمَ على العلة هو الذى يظهر به مقصود الشارع من تشريع الأحكام، وهو:أن تكون الشريعة محققة لما تفتقر إليه حياة المكلفين من: جلب المصالح التى عليها قوام عيشهم، ودفع المفاسد التى فيها شقاؤهم وهلاكهم. فيتبين بهذا أنَّ هذه الشريعة معقولة، تقوم أحكامها على أساس من المنطق السديد والحكمة البالغة، التى تَظهر لمن أنعم النظر وأعمل الفكر، ولا يخفى أنَّ هذا يفيد فى رد شبهة التعارض بين العقل والنقل.