واصل العدوان الثلاثى «بريطانيا، فرنسا، إسرائيل» شن غاراته على مصر منذ أن بدأته إسرائيل بهجومها على سيناء يوم 29 أكتوبر 1956، وصممت القيادة المصرية على المقاومة حتى آخر نفس، واستطاع جمال عبدالناصر شحذ الهمم بخطابه الذى ألقاه من منبر الأزهر يوم 2 نوفمبر 1956، وأطلق فيه صيحته الشهيرة: «سنقاتل، سنقاتل، ولن نستسلم».
انتفضت الجماهير العربية فى كل مكان تأييدا لمصر، وتنوعت أشكال هذا التأييد، واصطدمت مع حكوماتها، وكان العراق أبرز البلاد العربية نموذجا فى ذلك، حسبما يأتى فى كتاب «ثورة يوليو والمشرق العربى، 1952- 1956» للدكتورعبدالله فوزى الجناينى.
كان نورى السعيد هو رئيس الحكومة العراقية وقتئذ، ورجل بريطانيا فى المنطقة، ومن أشد المناهضين لتوجهات جمال عبدالناصر، وكان موقفه متخاذلا منذ بداية العدوان.. يذكر «الجناينى» أن خمسة نواب فى البرلمان رفعوا عريضة إلى الملك فيصل الثانى ملك العراق، تندد بموقف نورى السعيد وحكومته من العدوان على مصر، وأشاروا إلى أن هذه السياسة أدت إلى زيادة عزلة العراق عن الدول العربية، وزادت من نفوذ إنجلترا وسطوتها على بلادهم، وإزاء تزايد أعداد النواب المعارضين لسياسة الحكومة، أمر «السعيد» بتعطيل عمل البرلمان لمدة شهر.
كان التفاعل الشعبى العراقى مع الأحداث على النقيض من سياسة الحكومة..يذكر الجناينى: «قامت مظاهرة كبرى فى بغداد يومى 1 و3 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1956، ندد خلالها المتظاهرون بموقف الحكومة، وطالبوا بإعلان التعبئة العامة، وفتح باب التطوع للانضمام إلى صفوف الجيش المصرى، وأن تتخذ الحكومة موقفا إيجابيا من الأزمة يتفق مع رغبات ومشاعر الشعب العراقى، كما نادوا بالانسحاب من حلف بغداد ومنع النفط عن الغرب».
يؤكد الجناينى: «حاولت السلطات العراقية الحيلولة بين المتظاهرين والتعبير عن مشاعرهم، فوقف البوليس فى وجههم، محاولا فض المظاهرة بشتى السبل كإطلاق الرصاص وإلقاء القنابل المسيلة للدموع، ما أدى إلى سقوط قتلى وجرحى، وفى نهاية الأمر أفلح فى تفريق المتظاهرين بعدما ألقى القبض على عدد كبير من زعمائهم، وفى اليوم التالى مباشرة أعلنت الحكومة الأحكام العرفية، ومنعت قيام أى مظاهرة أو عقد اجتماعات، وقررت وقف الدراسة ببغداد وبعض المناطق الأخرى إلى أجل غير مسمى، وقامت بحملة اعتقالات واسعة للقوميين العرب، وشددت الحراسة على منشآت البترول خوفا من قيام الأهالى بنسفها».
لم يكن هناك تقسيم مذهبى بين سنة العراق وشيعتها، فالموقف القومى العروبى كان جامعا، ويدلل «الجناينى» على ذلك بما حدث فى مدينة «النجف» الشيعية، حيث كانت أشد المدن العراقية التى شهدت المظاهرات والإضرابات المؤيدة لمصر.. يؤكد: «كان لها دوى كبير لما تم فيها من أعمال عنف واستعمال للأسلحة النارية من قوات البوليس العراقى ضد المتظاهرين، الذين كانوا ينددون بموقف حكومة نورى السعيد من العدوان على مصر، ويطالبون بإقصائها عن الحكم والخروج من حلف بغداد، وبلغ عدد القتلى فى هذه المدينة وحدها مائة وأربعين قتيلا». فشلت كل الإجراءات القمعية للحكومة فى وقف تدفق العراقيين تأييدا لمصر..يذكر الجناينى: «توافدت جموع العراقيين رجالا ونساء على مقر السفارة المصرية ببغداد، وأعلنوا رغبتهم فى التطوع للقتال إلى جانب الجيش المصرى، وطلبوا من السفير المصرى إيجاد أى وسيلة لتسفيرهم إلى مصر.. وبلغت صلابة الموقف الشعبى العراقى درجة دفعت السفير الإنجليزى ببغداد «مايكل رايت» أن يكتب تقريرا إلى رئيس وزراء بريطانيا «أنتونى إيدن» يقول فيه: «ما لم يتوقف الهجوم على مصر بسرعة فلن يكون هناك قوة فى الأرض قادرة على حماية نظام نورى السعيد فى بغداد، لأن مشاعر الشعب العراقى كلها فى حالة نقمة ضد بريطانيا».
تنوعت وسائل تأييد العراقيين وتضامنهم مع مصر.. يذكر الجناينى: «تبرعت جمعية الهلال الأحمر بعشرة آلاف جنيه إسترلينى إلى نظيرتها المصرية، وفتحت نقابة المهن الطبية باب التطوع للخدمة بمصر، وجمعت التبرعات والأدوية، وقام الاتحاد النسائى بحملة واسعة لجمع التبرعات، وتكونت لجنة عليا من رجال المال والأعمال لجمع التبرعات الشعبية، التى بلغت اثنين وعشرين ألفا وأربعمائة وثمانية عشر دينارا ومائتى فلس حتى أوائل 1957، فضلا عن التبرعات العينية من الذهب والأدوية والملابس».
كان لأساتذة الجامعات موقف مشهود.. يذكر «الجناينى» أن 35 منهم تقدموا بعريضة إلى الملك فيصل، رفعها نيابة عنهم عبدالرحمن البزاز عميد كلية الحقوق، وخالد الهاشمى عميد دار المعلمين العالية، عابوا فيها على موقف الحكومة من العدوان الثلاثى، وكبتها للحريات واستعمالها القوة ضد الطلبة الذين حاولوا التعبير عن شعورهم بمظاهرات سلمية، وأحدثت هذه العريضة ضجة كبيرة فى الأوساط الحكومية وخارجها، وطبع منها آلاف النسخ ووزعت فى شوارع بغداد وباقى المدن العراقية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة