تقوم السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي على تحقيق مجموعة من الأهداف على المستوى الدولي، تشمل دعم الديمقراطية، وسيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، وذلك استنادًا إلى ما ورد في معاهدة الاتحاد الأوروبي ذاتها وما تضمنته الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، وخطة العمل الأوروبية لحماية الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان؛ إلا أنه من الملاحظ أن التركيز الأوروبي أصبح ينصب بدرجة رئيسية على مجرد "الحالات الفردية" لانتهاكات حقوق الإنسان المتعلقة بحالات حرية التعبير وسجناء الرأي من النشطاء أو المدونين، وحقوق التظاهر السلمي والدور الذي تقوم به منظمات المجتمع المدني، حيث يتم استغلالها بشكل انتقائي وفقًا للأولويات الأوروبية التي تتباين من حالة دولة لأخرى وفقًا لمجموعة من العوامل ذات الصلة بالمصالح السياسية والاقتصادية، ومقتضيات التعامل مع عدد من القضايا الإقليمية والدولية.
في مقال كتبه السفير عمرو حلمي، مساعد وزير الخارجية السابق، في المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، قال فيه : "يظل الاتحاد الأوروبي عاجزًا -إلى حدٍّ كبير- عن تناول حالات “الانتهاكات الجسيمة” لحقوق الإنسان، والمتعلقة بالاحتلال والعدوان وتمويل الإرهاب واستخدام المرتزقة، ومجمل انتهاكات القانون الدولي العام والإنساني، وهو ما ينطبق على حالتين رئيسيتين؛ تتمثل الأولى في التقاعس عن تناول الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، ويُذكر في هذا الصدد نمط تصويت الدول الأوروبية على نتائج تقرير اللجنة التي شكلها مجلس حقوق الإنسان عام ٢٠٠٩ لتقصي الحقائق حول انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ صوت ضد نتائج التقرير كل من إيطاليا وهولندا وسلوفاكيا والمجر وأوكرانيا والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل بطبيعة الحال، وامتنع عن التصويت مجموعة من الدول منها بلجيكا والنرويج واليابان وكوريا الجنوبية وسلوفينيا، وتغيب كل من فرنسا وبريطانيا عن حضور جلسة التصويت. وأيضًا نمط تصويت الدول الأوروبية ضمن "الديمقراطيات الغربية" على مشروع قرار الجمعية العامة لعام ٢٠١٢ لمنح فلسطين صفة دولة مراقب غير عضو في الأمم المتحدة، إذ صوت ضد مشروع القرار كل من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وجمهورية التشيك، وكانت بريطانيا وألمانيا وأستراليا وبلغاريا وكرواتيا والمجر وليتوانيا وهولندا وبولندا وكوريا الجنوبية وسلوفاكيا وسلوفينيا ورومانيا ضمن الدول الممتنعة عن التصويت.
وتابع في نص مقاله: "مهما يُقَل عن التطور الذي طرأ على مواقف دول الاتحاد الأوروبي من حيث تأييدها “لحل الدولتين”، تبقَ مشاركة دول الاتحاد الأوروبي في إدانة الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان والتي تقوم بها في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، واستصدار قرار في إطار الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة، عملية بالغة الصعوبة.
وأوضح قائلا : "تتعلق الثانية بحالة تركيا، إذ لم يتخذ الاتحاد الأوروبي موقفًا حازمًا من الانتهاكات المتواصلة لحقوق الإنسان التي يرتكبها “أردوغان” بسياساته القمعية ضد المتورطين في الانقلاب العسكري الذي شهدته تركيا خلال شهر يوليو ٢٠١٦ والذي لم يستمر إلا بضع ساعات، إذ شهدت حملة القمع التي قام بها “أردوغان” اعتقال ٢٩٢ ألف شخص، من بينهم ٦٩ ألفًا سُجنوا على ذمة المحاكمة على مدى السنوات الأربع الماضية، كما تم فصل أكثر من ١٣٠ ألف شخص من وظائف الخدمة العامة من خلال مراسيم الطوارئ، من بينهم مدرسون وضباط شرطة.
4545
ولفت: "كما صدر في نهاية نوفمبر الماضي حكم على ٣٣٧ شخصًا بمن فيهم ضباط وطيارون بالسجن مدى الحياة بعد المحاكمة الرئيسية لمحاولة الانقلاب. وفي الوقت الذي يدعي فيه الاتحاد الأوروبي اهتمامه باحترام حقوق الإنسان، جاء موقف المفوضية العليا للأمم المتحدة لشئون اللاجئين ليؤكد أن اتفاق اللاجئين الذي توصل إليه الاتحاد الأوروبي مع تركيا في مارس ٢٠١٦ يُعد انتهاكًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان وللقانون الدولي الإنساني ولالتزامات الدول الأوروبية الواجب احترامها والمنصوص عليها في الاتفاقية الدولية للاجئين لعام ١٩٥١ وحتى للصكوك الأوروبية لحقوق الإنسان، كما لم تتردد مجموعة من الدول الأوروبية في اتخاذ العديد من الإجراءات الخاصة التي تمثل انتهاكًا للقانون الدولي من أجل وقف وصول تدفقات المهاجرين إليها.
وأشار إلى أن يخضع الاتحاد الأوروبي لتهديدات متواصلة من “أردوغان” بفتح أبواب الهجرة إلى أوروبا، وهو التهديد الذي تدرك العديد من حكومات الدول الأوروبية “أن أوروبا ليس في استطاعتها قبول موجات جديدة منها حتى لا تنقلب الأوضاع السياسية في أوروبا رأسًا على عقب في الوقت الذي تتصاعد فيه ثقل التيارات اليمينية والشعبوية، وتتعاظم معه التحديات الثقافية التي تواجهها المجتمعات الأوروبية من جراء تزايد معدلات تدفق اللاجئين”.
وأكد أن التهديدات التركية الموجهة إلى أوروبا تثير العديد من التساؤلات لدى مجموعة من الدوائر السياسية والأمنية الأوروبية حول المدى الذي يمكن أن يذهب إليه “أردوغان” من أجل تنفيذ تهديداته، والحدود القصوى التي يمكن أن تقبلها الدول الأوروبية في تعاملاتها معه في ضوء ما يثيره من أزمات متواصلة في سوريا وليبيا وفي منطقة شرق المتوسط، خاصة بعد أن بدأت القوى المعارضة وعدد من وسائل الإعلام الأوروبية في التحذير من مواصلة الرضوخ للتهديدات التركية، ومخاطر الاستمرار في الخضوع للابتزاز الذي يستخدمه “أردوغان” في تعاملاته مع الاتحاد الأوروبي، ويلاحظ أن ما صدر عن قمة الاتحاد الأوروبي التي انعقدت يومي ١٠ و١١ ديسمبر يعد بمثابة عقوبات ثانوية وغير مؤثرة ولا تتناسب مع الضجيج الذي صدر من باريس وأثينا ونيقوسيا ولا مع ما تثيره سياسات “أردوغان” في شرق المتوسط أو في ليبيا أو سوريا والعراق من تهديد للسلم والاستقرار الإقليمي، فألمانيا -على سبيل المثال- تفرض حظرًا على تصدير الأسلحة للسعودية تحت دعاوى اعتراضها على الحرب الدائرة في اليمن، إلا أنها لا تفرض حظرًا مماثلًا لا على تركيا ولا على إسرائيل، وهو ما ينطبق أيضًا على حالة تعامل الاتحاد الأوروبي مع الصين، فعلى الرغم مما استحدثته الصين من سياسات في شأن هونج كونج يسعى الاتحاد الأوروبي إلى محاولة التوصل معها إلى اتفاقية للاستثمار، وهو ما يؤكد أن المصالح الاقتصادية تسمو على الاعتبارات المتصلة بحقوق الإنسان وبمقتضيات احترام القانون الدولي. ومع دخول أوروبا في ضوء واقعها السياسي والاقتصادي الحقيقي الراهن، في مرحلة يمكن أن تؤدي إلى تآكل الديمقراطية الليبرالية، فضلًا عن التحديات الناجمة عن خروج بريطانيا من عضويته، وتصاعد ثقل التيارات اليمينية والشعبوية، وتزايد الممارسات العنصرية في عدد من الدول الأوروبية؛ تجد العديد من الأطراف الدولية صعوبة في رؤية الدول الأوروبية تتصرف على هذا النحو الذي يؤثر سلبًا في قدرتها على مواصلة الادعاء باهتمامها باحترام حقوق الإنسان، وبضرورة الالتزام بالقانون الدولي.