ساءت العلاقة بين الكاتب المفكر توفيق الحكيم، وابنه إسماعيل، فتدخل الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل، رئيس تحرير «الأهرام» للإصلاح بينهما، ودبر مخططا بخمسة آلاف جنيه أسفر عن كتابة الحكيم مقالا بعنوان «تلاقى الأجيال» نشرته «الأهرام» على صفحتين يوم 19 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1969، وجمعه ضمن فصول كتابه «ثورة الشباب».
كانت المقدمات التى سبقت المقال مثيرة، تداخلت فيها أبعاد إنسانية ومادية فى العلاقة بين الأب والابن، فالأب بخيل ويرسم لابنه طريقا، والابن متمرد على الأب وماله، ويختار طريقا مختلفا، فيغضب الأب، وبينهما تعيش الأم وهى «ست أميرة جدا، وكانت قلقة بسبب سوء علاقة الحكيم مع ابنه»، حسبما يذكر «هيكل» فى حواره الطويل ليوسف القعيد فى كتاب «محمد حسنين هيكل يتذكر.. عبدالناصر والمثقفون والثقافة».
كانت علاقة هيكل «مواليد 1923»، والحكيم «مواليد 1898» وطيدة رغم فارق السن بينهما، بما يسمح بتدخل هيكل لمحاولة الإصلاح بين الحكيم وابنه.. يعود هيكل إلى بدايتها.. يتذكر للقعيد: «كانت بيننا علاقة قديمة عندما ذهبت أنا إلى أخبار اليوم، كان هو سيحضر إليها، هذا الكلام جرى فيما بين عامى 1946 و1947، كان كاتبا ومفكرا كبيرا ودمه خفيف، كانت بيننا علاقة غريبة، كان مبهورا بى من ناحية، وأنا كنت مبهورا بالأديب والفنان وهو كان مبهورا بالصحفى».. استمرت العلاقة، وبلغت ذروتها مع انضمام «الحكيم» إلى الأهرام بعد أن تولى هيكل رئاسة تحريرها عام 1957.
انضم «الحكيم» إلى الأهرام بعرض «هو الأول من نوعه فى تاريخ الصحافة المصرية»، وفقا لتأكيد هيكل للقعيد، موضحا: «كان العرض خمسة آلاف جنيه يحصل عليها فى السنة، وكان ذلك هو الحد الأعلى للمرتبات والأجور فى ذلك الوقت، ويحصل على مرتبه لمجرد أن يحضر إلى الأهرام ويجلس فى مكتبه، فإن كتب شيئا يحاسب عليه بقيمة ما يكتبه».
ويؤكد هيكل: «عندما وصلنا إلى هذه الصيغة التى لم يطلبها الحكيم، لم يكن قادرا على تصديقى، قال لى: «يعنى هأخذ ماهية علشان أقعد بس فى الأهرام؟.. قلت له: فعلا، عاد ليسألنى: وأنت تستفيد إيه من الشغلانة دى؟.. قلت له: كل ما أريده منك هو البقاء فى الأهرام والحضور إليه والجلوس فيه، تلتقى مع شباب جديد من الممكن أن يستمعوا إليك وأنت تتكلم، ويستفيدون منك ويتناقشون معك بالدرجة التى تريدها أنت، وهذا الكلام ليس من أجل النشر، ولكن بهدف الاستماع إليك فقط، أو أن تجلس مع حسين فوزى مثلا، أو مع نجيب محفوظ أو يوسف إدريس، والهدف من وراء هذا هو وجود أجيال وحوار بين هذه الأجيال، ووجود حركة فى الواقع الثقافى، وتواصل حوار بين الأجيال المختلفة فى مصر».
كشفت هذه العلاقة لهيكل حالة بخل «الحكيم»، تلك التى شكلت أحد أبعاد طبيعة ارتباطه المضطرب بابنه «إسماعيل»، وكانت أساسا فى الفكرة التى أثمرت عن مقال «تلاقى الأجيال».. يذكر هيكل: «لن أضيف جديدا الآن عندما أقول إن توفيق الحكيم كان بخيلا، إن هذا من الأمور المعروفة والشائعة، وأنا بذلك لا أذيع سرا لم يكن يعرفه أحد من قبل، ولذلك كان ابنه إسماعيل يشكل قضية معقدة فى حياته لا هزل فيها».
كان «إسماعيل» موسيقيا على عكس ما يريد والده الذى وجهه منذ الصغر ليكون مهندسا.. يذكر الحكيم فى مقاله: «سايرنى هو فى هذا الاتجاه بتفوقه البارز فى علوم الرياضة إلى أن غافلنى وظهر فجأة بميول فنية قبل السنة الإعدادية.. كان يكثر من الاستماع إلى الموسيقى الأجنبية فى البرنامج الأوروبى للإذاعة.. ولم أشعر ذات يوم إلا فى يده جيتار قيل لى إنه زهيد القيمة طلبه من والدته فى عيد ميلاده، ولم أر فى الأمر خطورة وظننتها هواية عابرة، ولم أجد ضرورة فى أن أقيم الدنيا وأقعدها كما فعل أهلى يوم رأوا فى يدى عودا أعزف عليه إلى جوار الأسطى حميدة المطربة العالمة».
كبر «إسماعيل» واحترف موسيقى «الجاز»، وأراد تكوين فرقة موسيقية وشراء آلات لها، ووفقا لهيكل فإنه استطاع إقناع والده بأن يعطيه سلفة 11 ألف جنيه، ويوقع على كمبيالات بالمبلغ، ويسدد يوميا مائة جنيه منها لأبيه.. اشترى إسماعيل الآلات وبدأت فرقته فى العزف بفندق «مينا هاوس»، ونجحت الفرقة، وسدد إسماعيل مائة جنيه فى اليوم الأول، ثم مائة ثانية فى اليوم التالى، وتوقف، فطرده «الحكيم» من المنزل، وأصر على استعادة المبلغ بالطريقة المتفق عليها، وفشلت تدخلات الأم والدكتور حسين فوزى، وناشد الاثنان هيكل بالتدخل فى الأمر؟.. فماذا حدث؟