وصل على أحمد باكثير (1910-1969م) إلى مصر سنة 1934م قادما من حضرموت بعد أن اقام قرابة العامين فى عدن والحجاز. وصل إلى القاهرة مشتاقا للقاء الأدباء الذين قرأ لهم وأعجب بهم. وكان عباس محمود العقاد (1889-1964م) فى طليعة أدباء مصر الذين قرأ لهم باكثير وأعجب بهم. وفى القاهرة ربطت باكثير بـعملاق العربية الكبير عباس محمود العقاد علاقة حميمة، فكان باكثير من المقربين للعقاد، وكان العقاد يحب باكثير ويدعمه ويدافع عنه، ويصد عنه هجوم مُبغضيه من اليساريين. وقد عاش باكثير تحت حماية العقاد وتأييده، ولم تشتد ضراوة هجوم الكُتَّاب اليساريين عليه - على حد تعبير أنيس منصور- إلا بعد وفاة العقاد رحمه الله. ولكن هذه العلاقة بين الأديبين الكبيرين لها قصة عجيبة، فقد بدأت بحب وإعجاب من طرف باكثير منذ كان فى حضرموت وقبل أن يهاجر إلى مصر، ثم تحولت إلى نفور وخلاف، بل وخصومة من أول لقاء لباكثير بالعقاد فى القاهرة قبل أن تعود وتتحول هذه العلاقة إلى صداقة حميمة على المستوى الشخصى والفكري. فما الذى حدث؟!
علي أحمد باكثير
سر خلاف باكثير مع العقاد:
عندما كنتُ أجمع مقالات باكثير وأعماله المتناثرة فى بطون صحف ومجلات عصره ضمن مشروعى فى جمع أعماله الكاملة، عثرت على مقال بعنوان (حديث مع ملحد يكتم عن قرائه إلحاده) نشر بمجلة الفتح بتاريخ 17يناير1935م فى العدد 429 السنة التاسعة. وفحوى المقال أن باكثير يعبر عن صدمته وخيبة أمله فى كاتب كبير التقى به مصادفة أثناء الحوار اكتشف أنه ملحد. وعندما التقيت أنور الجندى (1917-2002م) فى مكتبه بالقاهرة يوم 17/8/1994م، وهو من أصدقاء باكثير سألته إن كانت له معرفة بقصة هذا المقال والشخصية الكبيرة التى قصدها باكثير، فقال لي: إن باكثير يقصد العقاد. فعجبت فقال لي: لا تعجب لقد بدأ العقاد حياته مثل كثيرين ملحدا ثم أصبح من أقوى المدافعين عن الإسلام فى مؤلفاته. ثم قال: إن باكثير رغم ذلك تنبأ بأن يعود العقاد للإسلام، لأن مفكرا عظيما مثل العقاد لا يمكن أن يستمر بقية حياته فى ضلال. وقد صدق حدس باكثير مثلما صدق حدس مصطفى صادق الرافعى الذى تنبأ بعد صدامه الشهير مع العقاد بأن العقاد حتما سيعود إلى الحق، وسيكون فى طليعة المدافعين عن الإسلام فى القرن العشرين، وقد حدث..!
باكثير يروى قصته مع العقاد:
كان أول لقاء لباكثير بالعقاد مصادفة يوم 10 يناير 1935م فى المكتبة التجارية الكبرى بأول شارع محمد على بالقاهرة، حيث اعتاد العقاد أن يجلس أمام تلك المكتبة بعض الأوقات. يصف باكثير لقاءه بالعقاد فى مقاله بمجلة الفتح السابق الذكر: "هبطت القاهرة وأنا أحمل إعجابًا عظيمًا بكاتب كبير يُعَد فى طليعة كتَّاب العربية بمصر؛ لما آنست فى مقالاته اليومية ومؤلفاته الأدبية من عمق التفكير ونضوج الرأى واستقامة المنطق وسلامة البيان، وكان مما زادنى حبًّا له وتعلقًا به أنى لم أجد فيما يكتبه ذلك الغرام بالإلحاد الذى مُنِى به غيره، فجعلَتْ آنيتهم تنضح به بمناسبة وبدون مناسبة. واشتاق قلبى إلى رؤيته ومقابلته، حتى شاء الله أن ألقاه صدفة فى مكتبة من أشهر المكتبات بمصر، فما إن رأيته حتى عرفته من صورته، فتقدمت إليه قائلًا: إن لم أكن مخطئًا فى نظري، فأنا بين يدى الأستاذ........ فأجاب بالإيجاب، ونهض عن كرسيه وجذب كرسيًّا آخر إلى جانبه وقال لي: تفضل بالجلوس، ومن تكون أنت؟ فذكرت له اسمي، فقال: أهو أنت الذى نشرنا له بعض القصائد فى الجريدة؟ فقلت له: نعم. فرحَّب بى وأظهر لى لطفًا جمًّا. وتبسَّطنا بعد ذلك فى الحديث عن شئون مختلفة يجر بعضها بعضًا، حتى وصلنا إلى موضوع الدين وأثره فى تهذيب الأمة وخطر الإلحاد عليها، ونحو ذلك".
قصة المصالحة بين باكثير والعقاد:
فى آخر المقال ذكر باكثير أنه سيكتب فى مقال آخر قصة بقية لقاءاته مع الكاتب الكبير، لكنى بحثت فى مجلة الفتح بعد ذلك المقال فلم أجد شيئا، ويبدو أنه لم يكتب، ولكن أنور الجندى يقول: إن باكثير قال له إنه لم ينقطع عن العقاد كثيرا، فما كادت تمر سنة أو سنتين حتى التقى باكثير بالعقاد عدة مرات فى حوارات جديدة، ولمس باكثير فى العقاد تغيرا فى طريقة تفكيره، وأدرك أن العقاد فى طريقه إلى الإسلام عندما رآه يهاجم الاستعمار والنازية والشيوعية. وتوقع باكثير أن يعود العقاد للكتابة عن الإسلام، ويصبح من أقوى المدافعين عنه، لأن عقلية عبقرية مثل عقلية العقاد لا يمكن أن تستمر فى ضلال. وعادت العلاقة بين باكثير والعقاد آخر سنة 1937م بعد عامين من القطيعة. بدأ باكثير المصالحة بكتابة مقال عن كتاب العقاد (شعراء مصر وبيئاتهم فى الجيل الماضي) الذى صدر فى السنة نفسها، وكان تاريخ كتابة المقال 7/11/1937م. وبلغ باكثير أن العقاد بعد نشر المقال أثنى عليه فى مجلسه، فقام بزيارته فى منزله الواقع فى العمارة رقم 13 بشارع السلطان سليم الأول بمصر الجديدة، واستقبله العقاد بترحاب، وبدعابة من دعاباته المعروفة عنه، فقال له: "أهلا بك يا على أحمد باكثير .. لولا أن الناس تقول (العودُ أحمد) لقلنا (العودُ علي) يا مولانا ".. ! (ملاحظة: كلمة «مولانا» يستخدمها العقاد كثيرًا خاصة فى مخاطبة المقربين منه). وقد عثرت أيضا على مقالة ثانية بقلم باكثير عن مؤلفات العقاد، فقد وجدت مقالا لباكثير بتاريخ 14/5/1938م عن كتاب (الديوان) للعقاد والمازنى الذى صدر سنة 1921م. ومقالة ثالثة بتاريخ 1/12/1939م عن كتاب (رجعة أبى العلاء) للعقاد الذى صدر فى السنة نفسها.
قصة عودة العقاد للفكر الإسلامي:
ذات مرة سنة 1939م كان باكثير يزور العقاد فى منزله فرآه مدفونا بين الكتب والمراجع فأشفق عليه، فقال له العقاد: "يا مولانا نحن عاكفون على تأمل السيرة النبوية وتنقيح الأقوال فيها"، ولم يلبث طويلا حتى ظهر العقاد بأولى عبقرياته الإسلامية الشهيرة حين أصدر (عبقرية محمد) سنة 1941م وتوالت بعده مؤلفاته الإسلامية بعد ذلك.
انتصار العقاد لباكثير ضد اليساريين:
منذ ذلك الوقت أصبح باكثير من المحبين والمعجبين بالعقاد، وكان العقاد أيضا معجبا بالفتى القادم من حضرموت، وقرّبه إليه خاصة بعد توجهه نحو الكتابة الإسلامية. قال لى أنيس منصور (1924-2011م) فى حديث هاتفى معه أثناء وجودى بالقاهرة ليلة 28/7/2007م: إن العقاد كلما رأى باكثير داخلًا عليه فى بيته يقول لمن عنده: «افسحوا المكان لصاحبى القديم..!». ثم يقول له باسمًا: «تعال يامولانا.. اقعد هنا أمامي..!». وقال: «إن العقاد كان يحب باكثير، وكان يؤيده ويدعمه عندما يهاجمه اليساريون. وكان يقول له: لا تهابهم يا مولانا وأنا معك.. إنما قِبلتهم موسكو وقِبلتُنا مكة..». وقد أشار باكثير فى قصيدة رثائه للعقاد الى حُسن استقبال العقاد له فى منزله، وأدبه الجم فى تعامله مع ضيوفه:
ترشيح العقاد لباكثير لأول منحة تفرغ:
وكان صديق باكثير الحميم وصفيه فى آخر سنوات عمره الشاعر الدكتور عبده بدوى (1927-2005م) الذى عرفته أثناء دراستى بقسم النقد بالمعهد العالى للفنون المسرحية بالكويت، وكان أستاذا بجامعة الكويت ولكنه كان يُدرِّسُنا مادة الادب العربى بالمعهد، قال لى حين زرته فى منزله يوم 2/12/1978م وسألته عن علاقة باكثير بالعقاد قال: "كنا فى اجتماعات المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بلجنة الشعر نرى العقاد يدعم باكثير الذى كان عضوا بلجنة الشعر، وكان أصحاب الشعارات الحمراء فى المجلس يهابون العقاد، ويعرفون مدى كراهيته للشيوعية، ويحسبون له ألف حساب. وعندما تم إقرار منحة التفرغ الأولى فى الأدب كانوا يرشحون لها نجيب محفوظ الذى كان مترددا فى قبولها لأنها توقف علاوة الراتب، وهنا وجدها العقاد فرصة وقال: "إن باكثير لا يهمه ذلك، وهو رجل صبور على الكتابة، وأعرف أن عنده مشروعا أدبيا كبيرا، أنا أرشحه للتفرغ له.. وأعتقد أنكم جميعا توافقوننى على ذلك"...! فصمت القوم ولم يعقب أحد. وحصل باكثير على منحة تفرغ لمدة عامين 1961-1962م. ثم دعمه العقاد رحمه الله لتجدد له عامًا ثالثًا سنة1963م. ولولا دعم العقاد لما استطاع باكثير أن يتفرغ ليكتب لنا ملحمته الإسلامية الكبرى، ملحمة عمر، التى تُعُّد أطول عمل أدبى فى تاريخ الأدب العربى كله، وقد وجدت بين محتويات مكتبة باكثير الخاصة فى القاهرة بيتين من الشعر كتبهما له العقاد:
ذكريات الأسبوع الأخير فى حياة العقاد:
منذ أصيب العقاد بأول أزمة قلبية يوم 13 فبراير 1964م قبل شهر من وفاته، وباكثير مواظب على زيارته مع يحيى حقى ويوسف السباعى مساء كل اثنين، والاتصال به هاتفيا ثلاث مرات فى الأسبوع على الأقل، وأحيانا يذهب إليه باكثير مساء الخميس، وكان العقاد يسعد كثيرا بزيارة الأدباء المقربين إليه، وكلما رأى قلقهم عليه داعبهم بأسلوبه الساخر. فذات مرة فى إحدى زيارات باكثير ويحيى حقى له، حيث كان اتفاقهما إذا لم يصطحبا إليه أيهما يسبق الآخر ينتظر صاحبه عند شجرة الكافور العملاقة التى تظلل مدخل بيت العقاد، وفى تلك المرة وصل باكثير أولا فانتظر صاحبه، وصعدا معا. وعندما رأى يحيى حقى حالة العقاد أخذ يذكره بنصائح الأطباء بأن يقلل من حركته قدر المستطاع، فقال له العقاد ضاحكا: "ما تخافوش علي، الموت حيجى فى وقته ولو من غير مرض. أنا مش حضيع وقتى فى قلق الخوف من الموت. أنا سأظل استمتع بعمرى إلى آخر لحظة من حياتي، ومتعتى الوحيدة فى الحياة القراءة والكتابة"..!
يحيى حقي
وفى مساء الجمعة 7مارس قبل وفاة العقاد بستة أيام زاره باكثير بمفرده، وتطرق الحديث إلى المرض، فقال العقاد: "لم أخف يوما من الموت لأنى أعيش على يقين راسخ فى أعماقى برحمة الله"، وودع باكثير العقاد ولم يجل بخاطره أنه الوداع الأخير، لكنه كان قلقا على صحته، فقد رآه منهك القوى صعب الحركة، وفى الصباح اتصل باكثير هاتفيا بيحيى حقى بمكتبه فى مجلة المجلة التى كان يرأس تحريرها آنذاك، وقال له إنه لا يشعر أن حالة العقاد على ما يُرام. ولكن يحيى حقى طمأنه وقال له: "متقلقش عليه .. زاره توفيق الحكيم وعزيز أباظة وقالوا صحته زى الفل ..؟! " واتفق يحيى حقى مع باكثير على أن يزوراه الجمعة القادمة التى لم تأت قط..!
مقبرة العقاد في اسوان
الليلة الحزينة.
وأثناء مراسم التشييع اقترح يحيى حقى على باكثير السفر مع الجثمان فى القطار نفسه لحضور الدفن ومرافقة العقاد إلى لحظة نزوله فى مثواه الأخير. وافق باكثير وفرح بلفتة الوفاء العظيم من صديقه يحيى حقى، واتفقا أن يصطحبا دون أن يعلم أحد من زملائهم الأدباء حتى لا يُحرجوهم. سافر الصديقان الوفيان مع جثمان العقاد فى القطار نفسه، وكانت الرحلة إلى أسوان تستغرق 14 ساعة، وخلال هذه الساعات أكمل باكثير قصيدته فى رثاء العقاد حتى بلغت 40 بيتا. وشهدا دفن العقاد إلى لحظة نزوله قبره رحمه الله. وألقى باكثير أجزاء من مرثيته فى حفل التأبين الذى أقامته محافظة أسوان لابنها العظيم، وبعد ذلك توجه باكثير ويحيى حقى لفندق قريب من المقبرة ليباتا ليلتهما الحزينة فيه. وأمام الإطلالة الخلابة على النيل وجو مارس المعتدل نظر يحيى حقى مليَّا إلى النيل وقال: هذه أول ليلة يباتها العقاد وحيدا فى قبره. فقال له باكثير: لا خوف عليه .. الآن أتذكر ما قاله لى الجمعة الماضية عندما أبديت له قلقى على صحته، قال لى بيقين المؤمن: "لم أخف يوما من الموت لأنى أعيش على يقين راسخ فى أعماقى برحمة الله". لم يستطع الأديبان البقاء فى الفندق أكثر من يوم واحد فقد كان الجو النفسى المسيطر عليهما حزينا للغاية، فعادا إلى القاهرة فى اليوم التالي.