"رب الخير مش هيجيب غير الخير"، كان هذا آخر ما قالته الفنانة الراحلة رجاء الجداوى، جملة ما زالت تتردد فى أذهان ابنتها أميرة لتتعلم منها الكثير وتكتسب منها اليقن والرضا بقضاء الله، خاصة أنها الحكمة التى دائمًا ما كانت الأم الراحلة ترددها طوال حياتها.
فى وصف يحاكى الواقع تتذكر الابنة ليلة حزن فيها البيت وأهله، جدارنه وأثاثه، حيث كانت الفنانة رجاء الجداوى تغادر البيت مرتدية بلوزة باللون الأبيض وبنطلون أسود وكانت فى قمة أناقتها وجمالها مصطحبة مصحفها وسبحتها، وبوجه بشوش يحمل القوة قالت "اجمدوا وخلوا بالكم من نفسكم رب الخير مش هيجيب غير الخير، لو رجعت خير ولو مارجعتش بردو خير"، وأسرعت خارج البيت لتعتلى سيارة الإسعاف متوجهة إلى مستشفى العزل بأبو خليفة بالاسماعيلية، لتكون هذه المرة الأخيرة التى ترى فيها الابنة عيون أمها.
من أحب مكان إلى قلب الراحلة رجاء الجداوى، روت أميرة حسن مختار الابنة الوحيدة لها لتليفزيون اليوم السابع، أدق تفاصيل وأسرار حياتها التي لم تذكر من قبل، تصف "أميرة" الأحداث قائلة: "هنا فى حديقة منزلها وعلى كرسى "البامبو" وبجانبه منضدة صغيرة من الزجاج يوضع عليها "مج" من الفخار منقوش بالزهور، وبداخله الشاى المحبب لها، تجلس "رجاء" لتقرأ إما فى مصحفها أو السيناريو للدور الذى ستعمل عليه، أو كتبها التى تعشقها، فكانت الراحلة تقرأ بثلاثة لغات "الفرنسية والإنجليزية والعربية" وكانت عاشقة لقراءة الأدب.
صممت الحديقة كما رسمتها الراحلة اهتمت بكل تفصيله فيها، هذه البرجولة، وجلسة محببة مع العائلة والأصدقاء أمام شاشة التلفاز، ومنضدة فى منتصف البرجولة يوجد عليها ما ألذ وطاب، وبجانبها توجد شجرة الفل التى وضعت شتلاتها بنفسها، لترويها كل يوم بيدها وتحدثها، فكانت تقول دائمًا: "الشجر بيسبح ربنا وأكيد سامعنى وفاهم أنا بقوله إيه"، وهذه الشمسية يوجد تحتها أوانى فخارية وضعتها الراحلة لتطعم اليمام والعصافير، أما ساعة العصارى واحتساء فنجان القهوة، فكانت من أهم العادات التى تفضلها الراحلة داخل حديقتها.
تقول أميرة وتصف حالة الحديقة بعد وفاة والدتها: "كل حتة فى الجنينة حزنت على أمى، الشجر دبل والنجيلة ماتت وفرشت لون أصفر رغم أن العمال كانوا بيروها كل يوم، زى ما يكون قطرات المية من إيد أمى بتختلف عن أى حد تانى".
ننتقل من الخارج إلى داخل البيت لنرى بيت يسيطر عليه الذوق الفرنسى فى كل شىء. تحفة فنية تتميز بالرقى والبساطة، "الريسبشن" أو مكان الاستقبال، أو الطابق الأول مقسم إلى ثلاث أجزاء، السفرة شديدة الرقة والتصميم، وصالون استقبال للمقربين وآخر لاستقبالات الرسمى جميعهم يغلب عليهم الطابع الكلاسيكى الفرنسى وتصميم لوى كانز، "النجف، البراويز، إكسسوارات الديكور" كلاسيكية حتى "موديفات" روكنات الأسقف مأخوذة من تصميم قصر فرساى بفرنسا.
"مامى كانت تقولى البيوت مش بالديكور بتاعها البيوت بقلوب صحابها، لما حد يدخل من الباب بيكون شغلها الشاغل أنه يمشى مبسوط أو مرتاح، أو يمشى عاوز يرجع تانى أو مش عاوز يمشى، ده الهدف الأساسى من بيتها، بالإضافة إلى نظافة المكان أكثر من شياكته، مامى كانت بتعتز بمصريتها أوى كانت تقولى الشياكة والفن والأخلاق والعادات والتقاليد احنا المصريين، الأدب والأخلاق كانوا سمة أمى فى التعامل مع الجميع من الصغير إلى الكبير"، هذا ما تعلمته أميرة من أمها وروته لنا.
كانت الفنانة الراحلة توجه العديد من النصائح لابنتها فكانت أهمهم كما تقول أميرة: "مامى كانت دايمًا تقولى، ماتبقيش طيبة أوى كدة، كونى حقانية بس، وكانت تنصحنى إنى أفقد الوزن الزائد وكانت تقولى، أى إنسان لازم يحافظ على صحته وأكله وخليكى رياضية، ورغم أن زاد وزنها بعد جراحة الغدة إلا كانت بتحاول تحافظ على وزنها ولكن بصعوبة".
ورت أميرة: "الجمال جمال الروح، البسى أى حاجة بشياكة، دولاب مامى لا يخلو من التوب والنبطلون الأسود، وتغير فى أى حاجة بعد كدة تحس أنها فى كل مرة لابسة لبس جديد، الألوان اللى كانت بتحبها الأرزق والأسود، أمى كانت عاشق لبرفان (بلاك أوبيوم) كانت بسيطة جدًا مابتحبش المجوهرات ولا بتحتفظ بها كانت تقول هتقيدنى ولا زم ألبسها، كانت بتحب الإكسسوار".
وتابعت أميرة حديثها لليوم السابع: "أمى كان لها كرسى الصلاة محطوط فى أوضتها في اتجاه القبلة، تقعد عليه تقرأ في المصحف كانت بتقرأ كثير في المصحف، أو تصلى كانت كثيرة الذكر بالسبحة، كان في ارتباط كبير بينها وبين ربنا في يقين وإيمان كبير جدًا في تصرفتها بأن كل شيء من ربنا كان جواها رضا كبير اتعلمناه منها".
وقالت أميرة: "أمى كانت تحب العمل جدًا وتقدسه، في بدايتها عملت في جراج للنقل العام كانت تقبض العمال اليومية أو الأسبوع أو الشهر كل منهم حسب طبيعة عمله، وكان تعمل في نفس التوقيت في مكتب للترجمة من العربية للفرنساوى أو العكس، ثم بعد ذلك ألتحقت بالفن ثم عملت كعارضة أزياء، وظلت في تعمل في الفن حتى توفت".
كانت علاقة الراحلة بالفنانين علاقة خاصة جدًا، الكل يعشقها ويبدى الاحترام والمودة لها، سواء فنانين الزمن الجميل أو الحاليين، ومن المواقف التي لا تنسى فى حياة الراحلة رجاء الجداوى، كما روت "أميرة" سعادتها حين وافقت الفنانة الراحلة شادية على مقابلتها بعد تحديد موعد مسبق مع أولاد أختها، جلست معها جلسة مطولة تذكرت فيها الماضى واستفادت من خبرات الأخيرة في حاضرنا، أما الفنان عادل إمام أو "عدولة" كما كانت تناديه الراحلة فكانت هناك علاقة أسرية للغاية تجمع بين العائلتين، وكما قالت تحديدًا: "كنت خايفة يعرف بتعب ماما أحسن يجيله اكتئاب"، ومن خارج الوسط الفني فكانت هناك بوسي شلبى الابنة التي لم تلدها رجاء الجداوى، والأخت المقربة لأميرة، فكانت مسئولة عن كل ما يخص الفنانة الراحلة خارج البيت.
مرت الفنانة القديرة رجاء الجداوى، برحلة مرضية قصيرة المدة، ولكنها قاسية للغاية، تعود "أميرة" بالذاكرة عدة شهور حين كانت تجلس أمها على الأريكية وتمسك بسبحتها تذكر الله، حين قالت لابنتها "حاسة إن في صهد طالع منى"، ارتجفت الابنة وأسرعت لتأتى بمقياس الحرارة وإذ بدرجة حرارتها 39 و7 شرط، لم تستوعب الابنة، اتصلت بالطبيب وأجريت جميع الفحوصات التي أثبتت أن أمها مصابة بفيروس كورونا "كوفيد 19" صدمة رهيبة على حد قول "أميرة": "كنت خايفة أدبدب برجلى على الأرض من الرعب على ماما، عياط مستمر".
لحظات لا يمكن نسيانها في استقرت في ذاكرة وقلب "أميرة"، حين تخطو بقدميها داخل غرفة والدتها وتلمس بيدها كافة مقتنياتها، وتتذكر حين كانت تستعدت الفنانة للرحيل وقبل أن تخرج من باب غرفتها طلب منها ابنتها أن تكتب الآية الكريمة التي اعادت أن تكتبها حين تكون مسافرة في رحلة عمل.
وقالت أميرة: مامى كانت قبل ما تسافر للشغل في أى تصوير بتكتب على الحيطة أو خشب الدولاب الآية الكريمة "إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ ۚ" الآية 58 من سورة القصص، وده كان في كل حيطان بيتنا القديم، عادة جميلة كانت بتذكرها بالرحلة وأحداثها، في آخر مرة مامى كانت نازلة من البيت ورايحة مستشفى العزل، ما كتبتهاش قلتها اكتبيها يا مامى، بصتلى كده كأنها بتقولى أنا مش مسافرة، لكن أنا أصريت أنها تكتبها، مسكت القلم وكتبتها جنب المراية بتاعتها" غلبتها دموعها وهي تقول "في كل مرة مامى كتبتها كانت بترجع، لكن المرة دى مامى مارجعتش".
الآية على الجدار
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة