لا شك أن أفريقيا باتت مسرحًا وبيئة خصبة للتفاعل من جانب العديد من القوى الإقليمية، حيث شهدت السنوات الأخيرة تزاحمًا من الدول الإقليمية فى منطقة الشرق الأوسط للتواجد داخل الأقاليم الأفريقية الكبرى، وذلك من أجل مد نفوذها داخل المناطق الحيوية والجيوسياسية داخل إفريقيا، مستخدمة آليات وأدوات متنوعة ما بين النافذة الاقتصادية وضخ المساعدات المالية والاستثمارية، أو عبر الأداة الصلبة المتمثلة فى الأداة العسكرية عبر إقامة قواعد لتلك الدول داخل إفريقيا.
وتأتى أفريقيا فى قلب التقارب المصرى الفرنسى خاصة فى ظل التهديدات المشتركة النابعة من بعض مناطق التوتر داخل تلك القارة وعلى رأسها منطقة الساحل والصحراء فضًلً عن القرن الأفريقي، وتحقيقًا لمصالحهما المشتركة فى تلك القارة، ولعل ذلك برز بصورة كبيرة خًلل المؤتمر الصحفى الذى جمع ُكاًل من الرئيس عبد الفتاح السيسى والرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون.
تنبع أهمية القارة الإفريقية بصورة عامة فى كونها تطل على أهم الممرات المًلحية العالمية، فضًلً عن امتًلكها اقتصادات تعد من بين الأسرع نموا فى العالم، وخاصة منطقة غرب أفريقيا، لذلك أصبحت هى ومنطقة شرق أفريقيا جاذبة بقوة للاستثمار الأجنبي. ولعل الموقع الجغرافى الذى يمتاز به العمق الإفريقى وخاصة فى منطقة القرن التى تمثل أهم الممرات البحرية على الصعيد الإقليمى والدولي، جعلها مسرحًا للتشابكات والتجاذبات الإقليمية والدولية، خاصة وأن تلك المنطقة تقع على عدد من الممرات البحرية التى تشكل فى حد ذاتها بعدًا استراتيجيًا وأمنيًا ليس فقط على الصعيد الإقليمى ولكن على المستوى الدولي.
اتصالا بالسابق؛ فإن تلك المنطقة بمثابة أهم مناطق التوازن والاستقرار الإقليمي، وتشكل حلقة وصل رابطة بين المحيط الهندى والبحر المتوسط، حيث إنها تقع بالقرب من مضيق باب المندب الذى يتحكم بصورة رئيسة فى خط التجارة العالمية فى البحر الأحمر من ناحية الجنوب، مما جعلها تكتسب أهمية استراتيجية وسياسية وعسكرية واقتصادية كبيرة.
لعل المتأمل لكلمة الرئيس الفرنسى خلال المؤتمر الصحفى 7 ديسمبر 2020، يجد أن ملف الإرهاب كان أحد أبرز مجالات الاهتمام المشترك مع القاهرة، خاصة وأن باريس تنظر لمصر على أنها الحصن المنيع لمواجهة التطرف، ومن ثمّ فإن هذا الملف واحد من تشابك المصالح الفرنسية المصرية وأرضية صلبة للتعاون، انطًلقًا من أولويات تحقيق السًلم والاستقرار فى القارة السمراء، والعمل على تقويض الحركات المُسلحة والجماعات المتطرفة التى من شأنها تهديد الأمن القومى لدول المنطقة والدفع بمسارات الحل فى القضايا العالقة خاصة فى ظل هشاشه الأنظمة المتواجدة بتلك المنطقة.
واتصالا بالسابق؛ تأتى عملية تأمين المصالح الاستراتيجية المصرية والفرنسية على طول سواحل البحر الأحمر والحفاظ على أمن البحر الأحمر، وذلك فى ضوء ما تتمتع به دول القرن الإفريقى من موقع استراتيجى هام على أحد أبرز المضايق البحرية فى المنطقة، بما يعزز من فرص سًلمة المًلحة البحرية.
مجابهة الحركات المعادية للمصالح المصرية فى القارة السمراء من جانب عدد من القوى الإقليمية وعلى رأسها تركيا، واتهام فرنسا لها بانتهاج استراتيجية تستهدف بها تأجيج مشاعر العداء لفرنسا داخل القارة، خاصة وأن أنقرة شهدت تحركات متعددة فى الآونة الأخيرة فى الشرق والغرب الأفريقي، عكستها الزيارات المختلفة لوزير الخارجية التركى "مولود جاويش أوغلو"، وتدخلها عسكريًا على خط الأزمة الليبية، مما دفع فرنسا فى تعزيز قواتها العسكرية بدول تشاد والنيجر ومالي، وذلك لقطع الطريق على انتقال العناصر الإرهابية من نيجيريا شمال إلى ليبيا، وبالتالى التأثير على المصالحة الفرنسية فى معادلة غاز شرق المتوسط.
ومن هذا المنطلق فإن التحركات المصرية الفرنسية فى العمق الإفريقى تتلاقى فى جملة من الأهداف والأبعاد تتجلى فى العمل على تعبئة الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب، ومواجهة ظاهرة انتشار الجماعات الإرهابية المسلحة فى القارة الإفريقية وعلى رأسها "تنظيم بوكو حرام" و "حركة الشباب الصومالية" وتنظيم "داعش" إلى جانب تنظيم القاعدة فى المغرب العربي.
هذا فضلا عن حتمية انتهاج الطرق السلمية القرار السالم والأمن داخل الدول والحفاظ على الدولة الوطنية وتماسكها كما هو الحال بالنسبة للحالة الليبية وكذلك الدول الأفريقية كما هو الحال بالنسبة لدولة مالي، وتكمن الرؤية المصرية الفرنسية حول تعزيز التعاون البناء فى تعظيم الاستفادة من الموارد الطبيعية التى تمتاز بها القارة الأفريقية، بما يحقق رخاء ونمو شعوب تلك المنطقة.
ولعل التقارب يكمن بين القاهرة وباريس فى أدوات الانخراط داخل القاهرة السمراء والتى تتنوع فى مجهودات عسكرية فى ضوء بعثات الأمم المتحدة لحفظ السالم، أو من خلال التعاون الثنائى والجماعى لدحض الإرهاب، إلى جانب الأداة الاقتصادية والتنمية، وأخيرًا الأداة الثقافية النابعة من الخصوصية المصرية ومن السياسة الفرنسية منذ عام 1986 سعيها لتأسيس الرابطة الفرانكفونية بهدف تشكيل تجمع سياسى بمثابة تكتل مؤثر على الساحة الدولية، والتى بالطبع أثرت بصورة كبيرة على ثقافة شعوب تلك الدول، وهو ما يختلف بصورة كبيرة عن كًلً من روسيا والصين وكذلك واشنطن التى تركز بصورة كبيرة على البعد الاقتصادى وبنسبة أقل الأدوات الأخرى.
انطلاقا من الاعتبارات الجيوسياسية المختلفة التى تمتاز بها مصر، واستراتيجية التحرك نحو إقرار السًلم والاستقرار الداخلى فى القارة السمراء منذ مجيء الرئيس "السيسي"، تعٌول فرنسا كثيرًا على مصر فى ضوء الشراكة الاستراتيجية مع باريس فى الكثير من الملفات المختلفة وعلى رأسها القضية الليبية، وحتمية العمل المشترك النجاح الحوار السياسى فى تلك الدولة التى تشهد صراعًا ممتدًا منذ عام .2011
وفى ظل سياسة المحاور والاستقطاب الذى تشهده البيئة الدولية والإقليمية للتفاعل فى القضايا الإقليمية، خاصة تزايد التنسيق الروسى الأمريكى التركي، ترى فرنسا فى مصر حليف استراتيجى لها، لكسر تلك الحلقة وتعزيز موازين القوى داخل المنطقة، بما يضمن تواجدها على الساحة والحفاظ على مصالحها المختلفة.
فضالً عن أهمية دور القاهرة فى تعزيز الأمن داخل منطقة الساحل والصحراء والذى يواجه تحديات على رأسها الإرهاب والجريمة المنظمة نجد أن فرنسا تتواجد داخل تلك المنطقة بصورة عسكرية تتمثل فى إطلاق عملية برخان لمكافحة التطرف فى منطقة الساحل الأفريقى منذ مطلع أغسطس عام 2014 والمشكلة من 4500، علاوة على دعمها للقوة "المشتركة العابرة للحدود" المشكلة بين كًلً من بوركينا فاسو وماى وموريتانيا والنيجر وتشاد فى عام 2017.
فى ظل توجه أمريكا لتقليص عدد قواتها المتمركز فى المنطقة، لدراسة جدوى التواجد العسكرى الأمريكى فى تلك الدول، يعزز من إفساح المجال واسعًا أمام فرنسا للعب دور المكمل لغياب واشنطن المحتمل فى تلك المنطقة، حيث يتبلور محور التوجه الحديث لواشنطن حول دراسة تقليص التواجد العسكرى لها فى الصومال كاستراتيجية للانسحاب من الصراعات المستمرة منذ سنوات.
ونتيجة حتمية للسابق؛ فإن دول الساحل والصحراء التى تجمعها حدود مباشرة مع دول القرن الأفريقى سوف تشهد تناميًا كبيرًا للتمدد الإرهابى وتفاقم لظاهرة الجماعات المسلحة، الأمر الذى يعزز من الطرح الفرنسى الخاص بتفردها كراع لجهود مكافحة الإرهاب من خًلل تدشين تحالف G5 عام 2017، مما يستدعى مزيدًا من التنسيق الفرنسى المصرى على المستوى الأمنى منعًا لزعزعة الاستقرار داخل أفريقيا، والتعويل على القاهرة لسد هذا الفراغ خاصة فى ظل ما تمتاز به من خبرة طويلة فى مواجهة التنظيمات الإرهابية.
وختامًا؛ تلعب الشراكة المصرية الفرنسية دورًا مهمًا فى مخاض القضايا المتشابكة داخل القارة الأفريقية، ترمى فى نهاية الأمر إلى تعزيز الاستقرار السياسى والأمنى ومواجهة الإرهاب داخل منطقة الساحل والصحراء وامتداده لمنطقة القرن الأفريقي، بما يحقق ضررًا جسيمًا ليس فقط لمصالح الدولتين فى تلك القارة بل لكافة دول العالم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة