كيف نتعامل مع الروايات التى تذكرها الكتب العربية عن العصر الجاهلى؟ هذا ما يناقشه المفكر الكبير جواد على (1907- 1987) فى كتابه المهم "المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام"، فيتناول المصادر التى تشكلت منها صورة العصر الجاهلى ومنها ما كتبه "المؤرخون المسلمون".
ويقول جواد على، لا نتمكن من الاطمئنان إلى هذه الأخبار والروايات المدونة فى الموارد الإسلامية عن الجاهلية، إلا إذا وقفنا بها إلى حدود القرن السادس للميلاد أو القرن الخامس على أكثر تقدير، أما ما روى على أنه فوق ذلك، فإننا لا نتمكن من الاطمئنان إليه، لأنه لم يرد به سند مدون، ولم يؤخذ من نصّ مكتوب، وإنما أخذ من أفواه الرجال، ولا يؤتمن على مثل هذا النوع من الرواية، لأننا حتى إذا سلمنا أن رواة تلك الأخبار كانوا منزهين عن الميول والعواطف، وأنهم كانوا صدوقين فى كل ما رووا، وكانوا أصحاب ملكة حسنة ذات قدرة فى النقد وفى التمييز بين الصحيح والفاسد؛ فإننا لا نتمكن من أن نسلم أن فى استطاعة الذاكرة أن تحافظ على صفاء الرواية وأن تروى القصة وما فيها من كلام وحديث بالنص والحرف حقبة طويلة.
لذا وجب علينا الحذر فى الاعتماد على هذه الموارد وتمحيص هذا المدون الوارد، وإن تكاثر واشتهر وتواتر، فقد كان من عادة رواة الأخبار رواية الخبر الواحد دون الإشارة إلى منبعه، ويُتداول فى الكتب، فيظهر وكأنه من النوع المتواتر فى حين أنه من الأخبار الآحاد فى الأصل.
ولا أدرى كيف يمكن الاطمئنان إلى نصّ قصة طويلة فيها كلام وحوار أو قصيدة طويلة زعم أن التبع فلانًا نظمها، فى حين أننا نعلم أن الذاكرة لا يمكن أن تحفظ نصًّا بالحرف الواحد إذا لم يكن مدوّنًا مكتوبا، ولهذا جوّز أهل الحديث رواية حديث الرسول بالمعنى، إذا تعذرت روايته بالنص، ولا أعتقد أن عناية العرب المسلمين بحديث رسول الله كانت أقل من عنايتهم برواية ما جرى مثلًا بين النعمان بن المنذر وبين كسرى من كلام، أو من رواية ذلك الكلام المنمق، والحديث الطويل العذب، الذى جرى بين وفد النعمان الذى اختاره من خيرة ألسنة القبائل المعروفة بالكلام، وبين كسرى المذكور.
ومن هذا القبيل نصوص المفاخرات والمنافرات، فإن مجال لعب العاطفة فيها واسع رحيب. وكذلك كل الأخبار والروايات النابعة عن الخصومات والمنافسات بين القبائل أو الأشخاص، فإن الوضع والافتعال فيها شائع كثير، ولا مجال للكلام عليه فى هذا الموضع؛ لأنه يخرجنا من حدود التأريخ الجاهلي، إلى موضوع آخر، هو نقد الروايات والأخبار والرواة، وهو خارج عن هذا الموضوع.
لقد تحدث أهل الأخبار عن عاد وثمود وطسم وجديس وجُرْهُم وغيرهم من الأمم البائدة، وتكلموا على المبانى "العادية" وعن جنّ سليمان وأسلحة سليمان، ورووا شعرًا ونثرًا نسبوه إلى الأمم المذكورة وإلى التبابعة، بل نسبوا شعرا إلى آدم، زعموا أنه قاله حين حزن على ولده وأسف على فقده، ونسبوا شعرًا إلى "إبليس"، قالوا إنه نظمه فى الردّ على شعر "آدم" المذكور، وأنه أسمعه "آدم" بصوته دون أن يراه1. ورووا أشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل.
ولكن هل يمكن الاطمئنان إلى قصص كهذا يرجع أهل الأخبار زمانه إلى مئات من السنين قبل الإسلام، وإلى أكثر من ذلك، ونحن نعلم، بتجاربنا معهم، أن ذاكرتهم اختلفت فى أمور وقعت قبيل الإسلام، واضطربت فى تذكر حوادث حدثت فى السنين الأولى من الإسلام.
كيف يمكننا الاطمئنان إلى ما ذكروه عن التبابعة وعن أناس زعموا أنهم عاشوا دهرًا طويلًا قبل الإسلام، ونحن نعلم من كتابات المسند ومن المؤلفات اليونانية والسريانية، أنهم لم يكونوا على ما ذكروه عنهم، وأنهم عاشوا فى أيام لم تبعد بعدًا كبيرًا عن الإسلام، وأنهم كانوا يكتبون بالمسند وبلسان يختلف عن هذا اللسان الذى نزل به القرآن.
ثم خذ ما ذكروه عن حملة "أبرهة" على مكة وعن أبرهة نفسه، وعن "أبى رغال"، وعن حادث نجران وذى نواس، وعن خراب سدّ مأرب، وعن أمثال ذلك من حوادث وأشخاص سيرد الكلام عليها فى أجزاء هذا الكتاب، تجد أن ما ذكروه عنها وعنهم يتحدث بجلاء وبكل وضوح عن جهل بالواقع وعن عدم فهم لما وقع، وعن عدم إدراك للزمان والمكان، وعن عدم معرفة بالأشخاص. فرفعوا تواريخ بعض تلك الحوادث إلى مئات من السنين، وخلطوا فى بعض منها، وفى كل ذلك دلالة على أن ما حفظته الذاكرة، لم يكن نقيًا خالصًا من الشوائب، وأن الذاكرة لا يمكن أن تحافظ على ما تحفظه أمدًا طويلًا وأن آفات النسيان وتلاعب الزمان بالحفظ لا بد أن يغيّر من طبائع المحفوظ.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة