رسوم جمركية متبادلة بصدد أن يتم الإعلان عنها من قبل بريطانيا والاتحاد الأوروبى، فى أعقاب "بريكست"، لتتحول الوحدة الأوروبية إلى ما يشبه حربا تجارية، داخل القارة العجوز، ربما تفتح الباب أمام حروب أخرى، تبدو أكثر شراسة، فى صراعات بين القوى الرئيسية حول الهيمنة والنفوذ فى المرحلة المقبلة، لتترك تداعيات كبيرة، ليس فقط على الجانب الاقتصادى، وإنما تمتد لتشمل أبعادا أخرى، منها ما هو أمنى وسياسى ومجتمعى، فى المستقبل القريب، وهو ما يساهم فى إعادة صياغة العلاقات بين دول القارة فى المرحلة المقبلة، فى ضوء تقييم التجربة البريطانية، والتى تمثل سابقة هى الأولى من نوعها منذ تأسيس التكتل القارى فى الخمسينات من القرن الماضى.
ولعل الحرب التجارية المحتملة داخل القارة العجوز، والتى تتزامن مع حربا أخرى ضروس أطلقتها الولايات المتحدة، فى العديد الجبهات، تبقى فيها الصين أبرز المستهدفين منها، فى ظل الرسوم الجمركية التى أعلنتها واشنطن بحق العديد من دول العالم، من بينهم الدول الحليفة فى أوروبا الغربية وآسيا، وغيرها، لتحقيق قدر من التوازن التجارى، يمثل بداية مرحلة جديدة، تقوض إرث من المبادئ التى دارت حول حرية التجارة، والتى أرساها المعسكر المنتصر فى الحرب العالمية الثانية فى أواخر الأربعينات فى القرن الماضى، والتى كانت تهدف فى الأساس إلى خدمة اقتصاد الولايات المتحدة، عبر السماح لصادراتها باقتحام الأسواق العالمية، بالإضافة إلى دعم اقتصاد أوروبا الغربية (الحليفة لواشنطن) المنهار بعد عقود من الحروب، مقابل الدعم غير المشروط لأمريكا فى صراعها مع الشيوعية السوفيتية، إبان الحرب الباردة.
حرب تجارية.. العالم يتجه نحو سياسات "إفقار الجار"
وهنا يمكننا القول أن الإجراءات المرتقبة بين الاتحاد الأوروبى، وبريطانيا، على خلفية الطلاق فيما بينهما، والذى دخل حيز النفاذ الجمعة الماضية، يمثل إرساءً لنهج عالمى جديد، أطلقته إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، عبر اعتماد التعريفات الجمركية، لإنقاذ الاقتصاد الأمريكى المتراجع فى الأعوام الماضية، لصالح قوى أخرى، سواء كانوا من الحلفاء الأوروبيين والآسيويين أو الخصوم، وعلى رأسهم الصين، وذلك بهدف تحقيق التوازن الاقتصادى، وهى الخطوة التى اعتبرها قطاع كبير من المحللين بمثابة انقلاب أمريكى صريح على الصفقة القديمة التى قامت على تقديم الحماية الأمنية والاقتصادية لأوروبا، مقابل الولاء الأوروبى عبر دعم ومساندة الرؤى الأمريكية، مما يساعد على بقاء واشنطن على قمة هرم النظام العالمى، على حساب خصومها.
بريكست يعمق الحرب التجارية فى العالم
إلا أن الصعود الكبير لدول أوروبا الغربية، بالإضافة إلى النمو الاقتصادى الكبير الذى حققته دول ما يسمى بـ"النمور الآسيوية"، وعلى رأسها الصين والهند، خلق منافسة شرسة على صدارة النظام الدولى فى السنوات الأخيرة، وهو الأمر الذى دفع الإدارة الأمريكية إلى "تغيير قواعد اللعبة"، عبر العودة من جديد إلى سياسات "إفقار الجار"، عبر انتهاج إجراءات حمائية، تتعارض مع القواعد الاقتصادية الدولية التى سبق وأن أرستها واشنطن قبل عقود طويلة من الزمن، خاصة مع ضعف الصادرات الأمريكية للخارج، بالإضافة إلى النجاح الكبير الذى حققته واردات الدول الأخرى فى السوق الأمريكى، على حساب المنتجات المحلية، نظرا لانخفاض أسعارها مقارنة بالمنتج الأمريكى.
من الحمائية لحرب عملات.. شبح الكساد يلوح فى الأفق
الخطوات الأمريكية لا تقتصر على مجرد فرض الرسوم الجمركية لحماية الداخل الأمريكى من غزو المنتجات الأجنبية، وإنما امتد إلى التدخل فى سياسات بنك الاحتياطى الفيدرالى (البنك المركزى الأمريكى)، وهو ما يتجلى بوضوح فى الخلاف المحتدم بين البيت الأبيض، وجيروم باول (رئيس البنك)، فى ظل رفض الأخير لرؤية ترامب القائمة على ضرورة خفض أسعار الفائدة، مما يساهم فى تقليل قيمة العملة الأمريكية (الدولار) وهو ما يمنح ميزة تنافسية للصادرات الأمريكية، فى أسواق الدول الأخرى، وهو ما يعد بمثابة استلهاما للنهج الصينى، حيث اعتمدت بكين قيمة لعملتها (اليوان) أقل من قيمتها الحقيقية، مما فتح الباب أمام إغراق أسواق العالم بالمنتجات الصينية، وعلى رأسها السوق الأمريكى، وذلك بالتزامن مع مفاوضات مارثونية مع بكين بهدف إجبارها على رفع قيمة عملتها، فى ضوء الاتهامات الأمريكية للصين بالتلاعب فى عملتها.
ترامب أطلق شرارة الحرب التجارية
رؤية ترامب تحمل تحولا من مجرد فرض إجراءات حمائية، بهدف حماية الداخل الأمريكى من "غزو" الواردات القادمة من الخارج، إلى "حرب عملات"، والتى سادت العالم فى الثلاثينات من القرن الماضى، عندما لجأت الحكومات إلى تخفيض قيمة عملتها، من أجل تحفيز الاقتصاد لديها، خلال فترة وصفها التاريخ بـ"الكساد العظيم"، لتنتهى تلك الحقبة بإرساء مبدأ "حرية سعر الصرف" عبر اتفاقية "بريتون وودز"، والتى يرجع تاريخها إلى عام 1944، والذى يعنى تحديد قيمة العملة بناءً على العرض والطلب، وبالتالى فإن التدخل الحكومى المحتمل من قبل الإدارة الأمريكية حول قيمة الدولار، بمثابة انقلابا أخر على المبدأ الذى أرساه العالم فى تلك الحقبة.
تعميم الحرب التجارية.. أوروبا تحاول تأديب بريطانيا "على طريقة ترامب"
الإجراءات المتبادلة المرتقبة بين بريطانيا وأوروبا الموحدة، تعد بمثابة خطوة على طريق تعميم الحرب التجارية، لتتحول من نطاقها العالمى، بين أمريكا ومنافسيها، إلى نطاق إقليمى أضيق، داخل حدود القارة العجوز، خاصة وأن الإجراءات الجمركية ربما تتسع لتشمل خطوات أخرى تهدف فى الأساس إلى زيادة التضييق الاقتصادى بين الطرفين، فى ظل تحول الوضع بين الطرفين من الوحدة إلى الصراع على خلفية "بريكست".
ويعد السبب الرئيسى فى التوجه الأوروبى نحو التضييق على بريطانيا، على الأقل اقتصاديا فى المرحلة المقبلة، هو السعى نحو حماية الاتحاد الأوروبى من مخاطر التفكك، عبر تصدير الأزمات لـ"الدولة المارقة" حتى تصير "عبرة" لغيرها من الدول التى تسعى لاتخاذ الخطوة نفسها فى المستقبل، مع تنامى نزعات التحرر من أوروبا الموحدة، نتيجة الصعود الكبير لقوى اليمين المتطرف، ذات التوجهات الوطنية، إلى سدة السلطة فى العديد من دول القارة، وهو الأمر الذى يعد بمثابة قنبلة موقوته يمكنها تفجير أوروبا الموحدة فى أى لحظة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة