أحمد زكى يشبهنى وخلصت المنهج بدرى وابتعدت لأصون كرامتى وفنى
اخترقت الحصار الصهيونى وعالجت الجنود الجرحى ومسحت أرضية المستشفيات ووصفت الفن بأنه قوات مسلحة إنسانية
رحلت ولكنها لم ترحل..استسلمت لقضاء الله وأسلمت روحها إلى بارئها لكنها ظلت حتى أخر أنفاسها محبة للحياة مقاومة للألم، متصالحة مع الزمن وعلاماته، تفتخر بسنوات عمرها كلما تقدمت فى السن، لأنها قضت أغلب هذه السنوات وهى تفعل ماتحب وماتريد وماتقتنع به، تعطى للفن وللحياة وللوطن وللبشر نموذجا فى المقاومة والإبداع ، المقاومة من أجل الوطن، والمقاومة من أجل الفن، والمقاومة من أجل الحياة، والمصالحة مع النفس والوضوح فى المواقف ..هكذا عاشت الجميلة نادية لطفى التى رحلت بجسدها لتبقى بفنها ونضالها وروحها نموذجا لحب الفن والوطن والحياة.
ابتعدت الراحلة الجميلة نادية لطفى عن الفن والتمثيل منذ قدمت أخر اعمالها الفنية وهو مسلسل "ناس ولاد ناس عام 1993 "..اعتزلت الفن ورغم ذلك لم تنعزل عن الجمهور ولم تعتزل الحياة ، ظلت طوال هذه السنوات متلاحمة متواصلة مع جمهورها وزملائها وقضايا وطنها، ظلت لسنوات تقاوم المرض، كما قاومت من قبل ذلك عدو الوطن وكان لها دور بارز وواضح فى القضايا الوطنية والقومية وفى مقاومة العدو الصهيونى.
عاشت طوال حياتها بروح المناضلة المتمردة على كل أسباب الضعف، قاومت الفن الهابط ، وقاومت المرض الذى جعلها تقضى أغلب الفترة الأخيرة من حياتها فى المستشفى ولكنه مهما اشتد عليها لم يضعف من قوتها وإرادتها وحرصها على التواصل مع الناس.
لخصت نادية لطفى المتصالحة مع الزمن نظرتها للمرض فى كلمات كتبتها منذ عامين وهى ترقد فى المستشفى مستقبلة العام الجديد وعبرت فيها عن جزء من شخصيتها المقاومة والمحبة للحياة وقدمت نموذجا للرضا والصبر والقوة والعزيمة حيث قالت: «أكتب هذه الكلمات والسنة الجديدة فى طريقها إلى الدنيا استعد لها بسنوات عمرى المتبقية، أقول لها ادخلى وخذى من حياتى ما شئت، فقد اعتدت أن أحتفل مطلع كل عام بالسنة الجديدة وأيضا بميلادى الموافق 3 يناير، أكتب من غرفتى بالمستشفى ، حيث أخضع للعلاج، لكننى مع قسوة الألم أمارس حياتى كما أريد وأحب وأبغى، ألتقى الناس ولا أهرب منهم لتقدمى فى العمر فلست ممن يخافون من الزمن ولا من أفعاله، أعترف أننى لست فى الشكل والصورة التى اعتاد الجمهور رؤيتها، لكن تقدم العمر أضاف لى خبرات وتجارب كثيرة أولها عمق التعامل والحكمة والرؤية المستقبلية، والآن أنا امرأة جميلة الفكر أمتلك حرية الروح والإرادة والاختيار».
وهكذا عاشت وماتت جميلة الجميلات متمردة على كل أسباب الضعف،قوية أمام كل الآلام، مقاومة لكل أنواع القبح، وعاشقة للفن والحياة والجمال.
تحمل نادية لطفى صفات القديسة لويزا الطاهرة فى فيلمها الرائع الناصر صلاح الدين التى لا يعرف قلبها سوى الحب والسلام، فتداوى الجرحى وتخفف الآلام، ورقة وبراءة «سهير» فى فيلم الخطايا، وبنفس القدرة على الإبداع والإبهار تتحول لتصبح «زنوبة» فتاة الليل اللعوب التى تستطيع الاستحواذ على قلب وعقل «سى السيد وابنه ياسين فى رائعة نجيب محفوظ «قصر الشوق»، تشعر وكأنها تستطيع تطويع ملامحها ومشاعرها، فتتحول بين كل دور ونقيضه، فمن ينظر إلى وجه «لويزا» لا يصدق أنه نفس وجه «زنوبة» فى قصر الشوق، ومن يرى «مادى» فى النظارة السوداء، و«ريرى» فى السمان والخريف» يتعجب حين يرى ملامح «زينة» فى فيلم المومياء.
ولدت الراحلة المناضلة نادية لطفى فى حى عابدين واسمها الحقيقى بولا محمد مصطفى شفيق، وحصلت على دبلوم المدرسة الألمانية عام 1955، وكان والدها محاسب محبا للفن والسينما، واكتشفها المخرج رمسيس نجيب، واختار لها اسم "نادية لطفى"، اقتباسا من شخصية فاتن حمامة نادية فى فيلم لا أنام للكاتب إحسان عبدالقدوس، وقدمت أول أعمالها فى السينما عام 1958 من خلال فيلم "سلطان"وبعدها توالت رحلة تألقها الفنى والسينمائى.
لم تكن نادية لطفى مجرد فنانة ذات رصيد ضخم من الإبداع والوهج الفنى جعلها القاسم المشترك وكلمة السر فى نجاح عدد من أعظم أفلام السينما المصرية، حيث تستحوذ على عدد كبير من بين أعظم 100 فيلم فى السينما ومنها «المومياء، الناصر صلاح الدين، الخطايا، أبى فوق الشجرة، المستحيل، السمان والخريف.. وغيرها»، ولكنها حالة إنسانية ونموذج حياة ونضال ووطنية وبطولة يتجاوز بكثير كونها فنانة مبدعة، وهو ما جعلها تتربع على عرش القلوب رغم ابتعادها عن التمثيل منذ قدمت أخر أعمالها الفنية عام 1993 «مسلسل ناس ولاد ناس» بالتليفزيون، وفيلم الأب الشرعى فى السينما عام 1988.
وللفنانة الجميلة رصيد ضخم من المواقف الوطنية لا يقل عن إبداعها الفنى، حيث كانت على قناعة تامة بالدور الوطنى والقومى للفنان لذلك حملت طوال حياتها رسالة وطنية وقومية كما حملت رسالتها الفنية واكتسبت الكثير من صفات الجنود المحاربين، الذين لا يعرفون الاستسلام، حيث وقفت كثيرا إلى جوار الجنود على الجبهة فى حرب الاستنزاف وخلال حرب أكتوبر وكانت تنظم زيارات خلال حرب الاستنزاف للجبهة جمعت فيها الفنانين والأدباء ومنهم فطين عبدالوهاب وفؤاد المهندس وجورج سيدهم، ونجيب محفوظ ويوسف السباعى ويوسف إدريس، وتعلمت كيف تروض الألم حين جمعت شهادات الأبطال المصابين فى حرب أكتوبر خلال فيلم «جيوش الشمس» مع المخرج شادى عبدالسلام، كما كانت نادية لطفي ضمن فريق المتطوعات في أعمال التمريض بمستشفى المعادي العسكري خلال حرب أكتوبر 73، حتى أنها شاركت في أعمال التنظيف، ومسح أرضية المستشفى التي كانت تمرض الجرحى بها.
واعتادت جميلة الجميلات أن تهزم الخوف عندما اخترقت الحصار الإسرائيلى لبيروت عام 1982، وقالت وقتها: «مستعدة «أدخل فى حيطان ونار مش بس حصار».
وقال عنها الشاعر الفلسطينى عز الدين المناصرة: كانت نادية لطفى امرأة شجاعة عندما زارتنا خلال حصار بيروت عام 1982، وبقيت طيلة الحصار حتى خرجت معنا فى سفينة شمس المتوسط اليونانية إلى ميناء طرطوس السورى ، هى المواقف التى منحتها المزيد من القوة والقدرة على المقاومة والنظر إلى الفن، على أنه نوع من الجهاد والكفاح فى مواجهة التردى والقبح.
كما عرفت الفنانة الكبيرة نادية لطفى بمواقفها الداعمة لكل زملائها الفنانين ومنهم الفنان زكى فطين عبدالوهاب الذى أصيب بمرض السرطان وصرح فى أكثر من مناسبة بدور الفنانة نادية لطفى فى مساندته رغم محنتها مع المرض قائلا: " نادية لطفى من غيرها مكنتش أقدر أعمل أى حاجة، حسيت بجد أنى مفقدتش أمى، وكان لديها ثقة بأنى سأشفى من هذا المرض، وكانت تتحدث معى عن كيفية مقاومتها للمرض لديها وكان لديها إلحاح كبير فى متابعة سير الإجراءات بشكل سليم ومتابعة التحاليل ومواعيد الأطباء والجلسات، مش قادر أوفى كل اللى عملته معايا ولا عارف أرد لها الجميل إزاى".
وفى أخر حوار أجريناه مع البطلة المناضلة ورغم حالتها الصحية السيئة كانت لاتزال تحمل نفس القوة والروح المقاومة والمناضلة وتحمل فيضا من التفاؤل والقوة ومدادا من الأمل وحب الحياة.
تحدث نادية لطفى خلال الحوار عن قدرتها على تطويع ملامحها وأدائها فى أدوارها المختلفة بين القديسة والفتاة اللعوب أوالمستهترة، قائلة: «الممثل المتمكن يستطيع تطويع أدواته، وبذلك يمكنه تقديم شخصيات مختلفة، وهذا ما فعلته فى أفلامى المختلفة، الناصر صلاح الدين، النظارة السوداء، الخطايا، السادة الرجال، المومياء، السمان والخريف، وغيرها، وأرى أن أقرب فنان لنفس منهجى وأدائى التمثيلى هو الراحل أحمد زكى».
وفسرت قلة أعمالها التليفزيونية والمسرحية والتى اقتصرت على مسلسل واحد بعنوان «ناس ولاد ناس» عام 1993، ومسرحية بمبة كشر فى بداية السبعينات، قائلة: أنا مش بنت التليفزيون، وقدمت هذه التجربة كنوع من التنوع وهذا ينطبق أيضا على تجربتى الوحيدة فى المسرح، فأنا أعشق السينما، واستفدت علما وخبرة من تجاربى فى المسرح والتليفزيون أضافت لى فى السينما».
تحدثنا معها وفى ذهننا سؤال حائر فكيف لعاشقة السينما أن تبتعد عنها طوال هذه المدة رغم قدرتها على العطاء، فجاءت إجابتها ضاحكة وقالت: «أنا من الممثلين اللى خلصت المنهج بسرعة، وماكنش عندى استعداد لإعادة سنوات ونماذج سابقة قدمتها، وكان لى خط فى نهضة صناعة السينما والدراما، وقدمت تجارب جديدة فى الصناعة والدراما ومنها فيلم المستحيل للدكتور مصطفى محمود، وفيلم المومياء، الحاجز، والناصر صلاح الدين».
وأوضحت: «عندما بدأ الخط البيانى للسينما فى التدنى وحدث تراجع فى الدراما، قررت أصون كرامتى وفنى، فكان يجب أن أتوقف، لأن احترامى لفنى يفوق حبى وعشقى للعمل فى السينما».
وأضافت: «كان هناك نوع من التوهان، والعقد اللولى انفرط، ولم يعد هناك شكل للسينما فقررت الابتعاد»، وهكذا هى دائما كما تقول عن نفسها: «لا أحب أنصاف الحلول».
لم يكن ابتعاد نادية لطفى عن التمثيل بسبب الخوف من آثار الزمن أو تقدم العمر كغيرها من الفنانات، ولذلك لم تغب عن جمهورها ومحبيها، ولم تختبئ خلف سنوات العمر التى زادتها جمالا وثقة وقوة، وعن ذلك تقول: «عمرى ما وضعت الجمال فى تقييمى لنفسى، أنا اشتغلت على العقل، وأمارس حياتى كما أريد، لأن الهروب من المرض والشيخوخة يضعف الإنسان والآن أنا امرأة جميلة الفكر، أمتلك حرية الروح والإرادة والاختيار».
وخلال هذا الحوار لخصت نادية لطفى نظرتها للسينما والفن قائلة: «الفن لا يقل تأثيرا وفعالية عن الجيش، فكما يوجد قوات مسلحة حربية، يعتبر الفن قوات مسلحة إنسانية واجتماعية، ولكنه مر بفترة انتكاسة».
ولم تخلو نظرتها من التفاؤل حيث قالت: «اليومين دول بدأ الخط البيانى للدراما يعلى شوية فى الحوار والشكل والمضمون، وخفتت نبرة التحريض على العنف، وأرجو أن يستمر ويكتمل هذا الاتجاه».
لخصت كل معانى الوطنية والحب والرضا فقالت: «الحياة هى انعكاس حقيقى لحب الوطن وتقديس ترابه، وإن قُدّر لى أن أعيش الحياة مرة أخرى سأحياها كما حييتها، فأنا عشتها وقبلتها واستمتعت بها ومارستها، ومازلت أمارسها كما أحب وكما أريد، فالحياة لحظة مشعة صادقة، والحب أكسجين الحياة وبدونه نختنق، والصبر أكثر الأشياء التى تعلمتها من الدنيا».
جمعت الجميلة الراحلة بين قوة المحارب ورقة الصوفى المتعبد فى محراب الفن فقالت: «الفن الراقى يصل إلى الصوفية، فالفن هو الشمول والحياة، التاريخ والجغرافيا والعطاء والتجارب، ونهر الفن تصب فيه كل العناصر الاإنسانية».
استطاعت نادية لطفى لسنوات طويلة أن تروض الألم، ورغم انها كانت فى الفترة الاخيرة من حياتها تقضى فى المستشفى فترات أكثر من الأوقات التى تقضيها فى بيتها وسبق أن تعرض قلبها للتوقف إلا انها تحدثت بقوة عن الألم والمرض قائلة: الألم فى حد ذاته يكسب الإنسان أشياء كثيرة أهمها الصبر، والوجع يضيف للإنسان سموا وروحانية"
ورغم اعتزالها الفن والتمثيل لم تعتزل الناس والحياة وظلت حتى أخر لحظات حياتها تؤكد أنها لا تعانى من الوحدة لأن وقتها مشغول دائما بالأحباب والقراءة، وتستطيع كما قالت عن نفسها أن تشعر بالألفة والحب حتى مع الجماد.
تدهورت الحالة الصحية للجميلة المناضلة وتم نقلها للرعاية المركزة أكثر من مرة بعد حزنها الشديد على وفاة رفيقة عمرها الفنانة ماجدة الصباحى ونعتها قائلة أنها حزينة بشكل كبير على فراق شقيقتها فى العمل، وقبلها نال منها الحزن بسبب وفاة زوجة ابنها الوحيد.
ورغم ألامها المستمرة وتدهور حالتها الصحية لم تعرف الجميلة المناضلة الخوف حتى من الموت و قالت عنه: «الآن أسجل انطباعاتى عن الأيام، وقلبى لا يعرف الخوف، فلم أضبط نفسى متلبسة بالخوف أبدا، حتى الخوف من المرض أو الموت، وأدرك تمامًا أن الموت حق علينا، فلماذا أرهق نفسى بالموت وأنا حية أرزق وأضحك وأحب».
رحلت الجميلة ولكنها لم ترحل، حيث تبقى روحها المناضلة المقاومة المبدعة نموذجا ملهما فى حب الفن والوطن والحياة ..رحم الله الجميلة المناضلة نادية لطفى.