ركب وزير الخارجية البريطانى «سلوين لويد» السيارة الـ«رولز رويس» التى تمتكلها السفارة البريطانية فى القاهرة، ومعه السفير البريطانى «همفرى تريفيليان»، وتحركت بهما عائدة إلى السفارة فى حى «جاردن سيتى»، وكان أول ما قاله «الوزير» إلى«السفير»: «إنك تعجلت انصرافنا، وكان ناصر على استعداد لمواصلة الحديث وقتا أطول»، فرد تريفيليان:«لقد أردتك أن تقرأ هذه البرقية من رئيس الوزراء«أنتونى إيدن»، ثم ناوله مظروف الرسالة الذى كان فى جيبه، حسبما يذكر الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى كتابه «ملفات السويس».
يؤكد هيكل أن «لويد» قرأ رسالة «إيدن»على ضوء مصباح السيارة الداخلى، واحتقن وجهه أثناء قراءتها، ثم توجه بسؤال إلى «تريفيليان»:هل تظنه كان يعرف بطرد«جلوب» أثناء العشاء؟ هل كان يلعب معنا لعبة القط والفأر؟
كانت الأسئلة تتعلق بجمال عبدالناصر، وكانت الرسالة التى تلقاها «لويد» فى مثل هذا اليوم «1 مارس 1956» تدور حول هذا الحدث المهم الذى وقع فى الأردن قبل ساعات، وهو قرار الملك حسين بطرد جلوب باشا بعد 28 عاما من قيادته الفعلية للجيش الأردنى، وأمهله حتى السادسة من صباح 2 مارس «راجع ذات يوم 29 فبراير 2020».
يذكر هيكل أن «جلوب» كان ضابطا إنجليزيا وصل إلى العراق عام 1920 ضمن 300 ضابط جاءوا لمواجهة الثورة العراقية التى اندلعت فى نفس العام، واكتسب خبرة كبيرة فى الصحراء العربية، واستطاع أن يقضى على كل غارات القبائل على شرقى الأردن التى خرجت إلى الوجود فى نفس العام، ولهذه الخبرة وبعد انتهاء خدمته فى العراق عام 1928، استدعته الحكومة الأردنية كى يتولى السيطرة على الصحراء ومنحته رتبة لواء، وأصبح بهذا الوضع المتحكم الفعلى فى الجيش الأردنى.
أحدث القرار دويا هائلا فى المنطقة العربية ككل، وغضب هائل لدى الحكومة البريطانية، ظهر من رد فعل وزير الخارجية البريطانى فور أن قرأ برقية رئيسه «إيدن» بعد العشاء الذى أقيم له، ووفقا لهيكل فإن «عبد الناصر» قرر حضور هذا العشاء الذى دعا إليه وزير الخارجية الدكتور محمود فوزى، وكان تقديره أن مقابلته «لويد» قد تساعد على تخفيف حالة العصبية التى تتصرف بها الحكومة البريطانية، وربما ساعدت أيضا على تهدئة الأوضاع بصفة عامة فى المنطقة، وهكذا انتقل العشاء من نادى التحرير، حيث كان مقررا إقامته فى الأصل إلى قصر الطاهرة.
وساد العشاء أجواء طيبة بعد جلسة مسبقة إيجابية اقترح فيها
«لويد» أن تتعهد حكومته بعدم الضغط على دول عربية للانضمام إلى حلف بغداد، فى مقابل وقف مصر للحملات على بريطانيا والحلف، وأن تعلن بريطانيا بيانا رسميا باهتمامها بمشروع السد العالى ونيتها المشاركة فى تمويله، وأثناء العشاء، تلقى السفير البريطانى من سكرتيره الخاص برقية رئيس الوزراء أنتونى إيدن، وصدمه ما فيها، فقرر أن يضعها فى جيبه وألا يخبر وزير الخارجية بما فيها، ولم يكد العشاء ينتهى حتى بدا أن «تريفيليان» يتعجل الانصراف، فيما يحاول«لويد» وضع مقترحاته فى صيغة نهائية، وسأل جمال عبد الناصر ما إذا كان فى استطاعته أن يمر عليه غدا ، وهو فى طريقه إلى المطار ليحصل منه على كلمة نهائية حول هذه المقترحات.
يؤكد هيكل أنه فى السيارة التى أقلت المسؤولين البريطانيين طغى رد الفعل على ما جاء فى برقية «إيدن»، ويقول نقلا عن شهادة السفير البريطانى الذى يذكر ما قاله له وزير الخارجية:«هل لاحظت عندما تحدث بالسوء عن جلوب، وقال إنه رأس المصائب فى الأردن، وأن دوره هناك يسىء إلى بريطانيا ولا ينفعها، هل كان يعلم ؟
وهل تحدث إلينا وتفاصيل ما جرى فى عمان فى ذهنه رتبها وحرض عليها ثم راح يسخر منا فى أعماقه؟ يضيف هيكل: «قبل أن تصل السيارة بالاثنين إلى مقر السفارة فى جاردن سيتى، كانت أسئلة «سلوين لويد» قد تحولت إلى إجابات، وأضاف إليها أن جمال عبدالناصر، رتب مؤامرة طرد جلوب، بحيث تتوافق مع وجوده فى القاهرة إمعانا فى إهانته وإهانة الحكومة البريطانية. وظل وزير الخارجية البريطانى على هذا الحال حتى صباح اليوم التالى.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة