بعد أن فقدت أسعار النفط خلال شهر مارس 2020، قرابة 50% من قيمتها، وذلك فى أعقاب فشل منظمة أوبك وحلفائها المنتجين للنفط من خارج المنظمة، وفى مقدمتهم روسيا، أو ما يعرف بـ"أوبك بلس"، فى التوصل لتسوية بشأن خفض معدلات الإنتاج العالمى للنفط، والذى يتم بموجبه خفض الإنتاج بواقع 1.7 مليون برميل حتى نهاية هذا الشهر، الأمر الذى يدفع للتساؤل حول تأثير هذا التراجع فى الأسعار على اقتصاد دول الخليج.
بداية أزمة تراجع سعر النفط
وفى الوقت الذى كانت تسعى فيه السعودية للتوسع قى خفض الإنتاج، كانت روسيا تسعى للحفاظ على مستويات الخفض دون تغير، إلا أن عدم التوصل لاتفاق حيال مستويات الخفض، أدى فى نهاية المطاف إلى نشوب حرب أسعار بين الدول المصدرة للنفط، وتحديدا السعودية وروسيا، وذلك فى ظل سعى الأطراف المعنية للمحافظة على حصصهم السوقية على حساب أسعار النفط، وقد اعربت السعودية مؤخرا عن نيتها زيادة إنتاجها للطاقة القصوى، بالإضافة إلى تقديمها لتخفيضات هائلة على أسعار البيع الرسمية للشهر المقبل، ابريل 2020.
أدنى مستوى له منذ 18 عاما
وخلال تعاملات الإثنين 23 مارس 2020، تراجعت أسعار النفط العالمية بالسوق الأوروبية لتواصل خسائرها لليوم الثانى على التوالى، لتقترب من ملامسة أدنى مستوى لها فى 18 عاما، وذلك بالتزامن مع متابعة الأسواق العالمية لأحدث التطورات على صعيد مكافحة فيروس "كورونا" والتحيزات المالية لمواجهته، مع تصعيد الحكومات العالمية عمليات إغلاق الأنشطة الاقتصادية للحد من تفشى انتشار وباء فيروس كورونا.
وقد تراجع الخام الأمريكى خلال تعاملات الاثنين، إلى مستوى 20.84 دولار، من مستوى الافتتاح عند 23.40 دولار، وسجل أعلى مستوى عند 23.40 دولار، وانخفض خام برنت إلى مستوى 24.68 دولار للبرميل، من مستوى الافتتاح عند 26.75 دولار، وسجل أعلى مستوى عند 26.75 دولار، وعند مقارنة هذه الاسعار بالجمعة الماضية، 20 مارس 2020، نجد أن الخام الأمريكى فقد نسبة 15% من قيمته، ليستأنف بذلك خسائره الحادة التى توقفت مؤقتا فى اليوم السابق ضمن عمليات الارتداد من أدنى مستوى له فى 18 عاما عند 20.08 دولار للبرميل.
كما انخفضت العقود الآجلة لخام برنت بنسبة 9%، لتستأنف بذلك خسائرها التى توقفت مؤقتا يوم الخميس 19 مارس 2020، وسجلت العقود يوم الأربعاء، 18 مارس 2020، مستوى 24.54 دولار للبرميل، وهو الأدنى منذ مايو 2003.
وعلى صعيد تعاملات الأسبوع الماضى، فقد الخام الأمريكى أكثر من 29% من قيمته، بينما فقد خام برنت أكثر من 23%، فى رابع خسارة أسبوعية له على التوالى، وتُعد هذه التراجعات أكبر خسارة أسبوعية لاسعار النفط منذ مارس 2003، وذلك نتيجة لتصاعد المخاوف حيال ركود الطلب العالمى على النفط.
وإلى جانب أزمة التوقعات السلبية حول حجم الطلب على النفط، فى ظل انتشار فيروس كورونا، وتوقف العديد من شركات النفط، وشروع بعض المنتجين بالفعل فى منح الموظفين إجازات، تواجه أسعار النفط أيضا أزمة أخرى لا يقل تأثيرها عن التوقعات القاتمة للطلب، إذ يستعد معظم المنتجين الكبار، وفى مقدمتهم روسيا والسعودية، إلى زيادة الانتاج بشكل كبير خلال أبريل المقبل، وذلك بعد فشل تحالف أوبك بلس فى التوصل إلى اتفاق لخفض الإنتاج، وانتهاء أجل التخفيضات الحالية فى الإنتاج فى 31 مارس 2020.
تداعيات انخفاض النفط على دول الخليج
أدت الاضطرابات فى الأسواق المالية العالمية إلى تراجع أسواق النفط والسلع الأولية، إذ هبطت أسعار النفط إلى قرابة النصف مقارنة بما كانت عليه فى يوليو 2007، ومن المتوقع استمرار هذا الهبوط فى ظل تراجع اقتصاديات الدول الغربية الكبرى، وسوف يؤدى هذا الهبوط لا محالة، إلى أزمة مالية أوسع مع ارتفاع فى معدلات البطالة، الأمر الذى سيضع الدول المنتجة فى اختيار حقيقى حول إمكانية الاستمرار فى زيادة معدلات الإنتاج فى ظل تراجع الطلب، وسيدفعهم إلى خفض حتمى للإنتاج لإنقاذ الأسواق.
وبالعودة قليلا إلى الماضى، نجد أن هذا التراجع فى أسعار النفط، يشبه أزمة هبوط الأسعار فى أغسطس 1986، حيث تراجع البرميل إلى ما نحو 10 دولارات للبرميل الواحد، ووصلت اقتصاديات الدول الغنية للنفط من الشرق الأوسط إلى حالة طويلة من الركود، الذى أثر بصورة سلبية على الاقتصادات العربية التى تعتمد فقط على النفط.
ويتوقع الكثير من المحللين والخبراء الاقتصاديين حدوث انهيار كبير فى أسعار النفط، فبفضل عدم مرونة العرض والطلب قد تنتج تغيرات كبيرة فى الأسعار استجابة لتغييرات صغيرة فى ميزان العرض والطلب، بالإضافة إلى أن الركود فى الاقتصاديات الغربية مقترن منذ عدة سنوات بقيمة الاستثمار فى المعدات التى توفر الطاقة فى جميع أنحاء العالم، وسوف يستمر انخفاض الطلب على النفط فى الأشهر المقبلة، على الرغم من هبوط الأسعار واستمرار النمو فى الهند والصين.
وللحيلولة دون حدوث وفرة فى السوق العالمية، ودعم أسعار النفط، سوف تتدخل "أوبك"، لا محالة، للتحكم فى انخفاضات الإنتاج، وقد تنجح المنظمة خلال اجتماعها الطارئ فى وقت لاحق من هذا الشهر فى وضع مجموعة جديدة من الحصص المنخفضة، لكن مع التخلص من فكرة، أن جميع الدول المنتجة للنفط تميل للتعويض عن انخفاض السعر عن طريق زيادة الإنتاج. ولم تلق مناشدة أوبك لأعضائها للامتثال لنظام الحصص إلا عدم الاستجابة، كما أن الأسعار ستبقى فى وسط دوامة اللوم مع توجيه أصابع الاتهام إليها.
وفى السوق العادية، فان انخفاض الأسعار فى حد ذاته من شأنه تجديد الطلب، والحد من العرض، والقضاء على الإغراق، ولكن سوق النفط هذه الأيام يواكبه أزمة أخرى فى اقتصاديات كافة الدول جراء انتشار فيروس كورونا، وحدوث ركود فى النشاط الصناعى، وكذلك انغلاق الدول ووقف الطيران، الأمر الذى يزيد من حدة أزمة سوق النفط.
هذه الأزمة تضع موازنات دول الخليح فى مأزق حقيقى، حيث لا نجد ما يشير إلى أن هذه الدول قامت بوضع خطط لعودة أسعار النفط إلى مستويات 50 دولارا للبرميل الواحد، فالنفقات الحكومية فى إيران، والكويت، والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة زادت فى المتوسط بنسبة من 15 إلى 20 ٪ سنويًا من حيث القيمة الحقيقية فى السنوات الأخيرة.
ورغم ارتفاع النفقات والتوقعات باستمرار التأثير السلبى على اقتصاديات الدول العربية المنتجة، إلا أن حجم الزيادة فى عائدات النفط أدى إلى أن تتمتع هذه البلدان بفوائض كبيرة، يمكن الاعتماد عليها للتخفيف من آثار هبوط أسعار النفط، لكنها لن تكون كافية لمنع الانكماش الاقتصادي.
وتتمتع المملكة العربية السعودية بفائض تجارى بلغ نحو 25٪ من الناتج المحلى الإجمالى فى السنوات الأربع الأخيرة، والتى استخدمته لتأسيس صندوق سيادى كبير، وفى العام الماضى، بلغ فائض كل من الكويت والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة معًا أكثر من 200 مليار دولار، ولكن بمعدل ارتفاع النفقات، فإن هذه الفوائض سوف تختفى فى غضون عام أو عامين.
وبالنسبة لإيران، فإن فائضها أكثر تواضعًا من المملكة، إذ يبلغ نحو 10 ٪ من الناتج المحلى الإجمالى، وقد ساعد هذا الفائض المتواضع من النفط على بناء صندوق صغير جدا لاستقرار النفط، يعادل أقل من ستة أشهر من الواردات، وذلك لتسهيل النفقات على المدى المتوسط.
وبالنسبة لهذه الدول، فالضغط لتقليص النفقات يتم بالفعل، وبالتالى فمن غير المحتمل إمكانية ابعاد شبح التباطؤ الاقتصادى بالاعتماد فقط على هذه المدخرات الخارجية، وخلال أزمة هبوط أسعار النفط فى ثمانيات القرن الماضى، تسبب الانخفاض بسوق النفط فى حالة من الركود الاقتصادى ليس فقط فى الدول الغنية بالنفط، وإنما فى المنطقة ككل، وبين عامى 1983 و1987، انخفض الناتج المحلى الإجمالى للفرد بواقع 20 % فى إيران، و32 ٪ فى دولة الإمارات العربية المتحدة، أما الكويت وحدها فتمكنت من إبقاء التراجع إلى أقل من 2%.
وتُعد التحديات التى تواجه حكومات هذه الدول الآن أكثر صعوبة من تلك التى واجهتها بعد انتهاء الأزمة النفطية فى الثمانينيات، وعلى الرغم من أن النمو الاقتصادى الأخير خلق تحسنًا كبيرًا فى مستوى المعيشة والبنية التحتية، إلا أنه لم يولد ما يكفى من فرص العمل، وخاصة بالنسبة للشباب، وفى دول مجلس التعاون الخليجى، خلقت أسواق العمالة المزدوجة الملايين من فرص العمل للعمال الأجانب، ولكن قطاعات كبيرة من الشباب المحلى يواجهون بعض التحديات.