اجتمع الأطباء فى عيادة الرجل الطاعن فى السن بمدينة نابولى الإيطالية، وقرروا: «الفرعون الذى حكم الشرق لم يعد إلا طفلا»..كان «محمد على باشا» والى مصر منذ 1805، والمولود فى كافالا اليونانية يوم 4 مارس 1769،هو هذا المريض، ووفقا لمذكرات وزيره «نوبار باشا» الصادرة عن «دار الشروق، القاهرة» فإن الأطباء جاءوا بعد رحلة علاجية من مرض الدوسنتاريا بدأت من فبراير 1848 حيث أبحر من الإسكندرية إلى جزيرة مالطا على سفينة «إسكندر»التى وضعها قنصل فرنسا فى مصر تحت تصرفه..يؤكد «نوبار»،أن الباشا نزل فى الحجر الصحى بمالطا، وعالجه الأطباء بمحلول نترات الفضة ونجحوا فى وقف المرض، لكن العلاج نال من قدراته العقلية، وكان من المقرر بقاؤه 12 يوما، لكنه رحل إلى نابولى لسوء الطقس.
يذكر جيلبرت سينويه، فى كتابه «الفرعون الأخير- محمد على» ترجمة «عبد السلام المودن» عن «منشورات الجمل- بيروت»، أن السفينة «إسكندر» وصلت إلى نابولى يوم 3 مارس 1848، وكان فى استقبال الباشا ابنه إبراهيم الموجود فى إيطاليا للعلاج أيضا، والأمير إكيلا شقيق ملك الصقليين.. كان نوبار مرافقا لإبراهيم، ويصف دراما لقاء الأب بابنه: «كانت نظرات إبراهيم كلها قلق وحيرة، ولم يكن من الممكن أن أقول: إن محمد على فقد عقله تماما لأنه فى لحظات ما، كان يدرك تماما الحالة التى هو عليها، ويراقب نفسه، فما أن يشعر بأنه سوف يدخل فى نوبة هذيان، أو فقدان العقل إلا وقد كان يختلى بنفسه، فى عزلة تامة محاولا بكل قوة أن يستعيد تسلسل أفكاره، سواء كان يستطيع هذا أم لا، إلا أن هيئته ومظهره لم يتغيرا».
يواصل نوبار: «كان على ما هو عليه منذ أن عرفته، محتفظا بهيبته الكبيرة وبهذه القدرة الفائقة على أن يظل أنيقا ونظيفا إلى حد التبلور داخل هذه الأناقة والنظافة، كانت عيناه دائما متيقظتين ونشطتين، دائما يجلس وركبتاه نصف مثنيتين ودائما خنجره فى متناول يده، كل التناقض بين هذا وبين حال ابنه إبراهيم الواقف أمامه محنيا فى انتظار أمر أو كلمة من والده، وهو ينظر إليه خلسة متسائلا، إن كان مرض والده هذا حقيقيا أم مصطنعا».
يؤكد «سينويه» أن محمد على، عرف وهو فى نابولى بالأحداث التى جرت فى فرنسا، والمتعلقة بأحداث ثورة فبراير التى أسقطت الملكية وأعلنت الجمهورية.. يؤكد: «أدى تنازل لويس فيليب عن عرشه إلى إلقائه فى حالة من الذهول الشديد، ويبدو أنه كان متعلقا بقلبه وروحه بشدة بالملك المخلوع».. يؤكد «سينويه»: «انفجار غضبه كان مسموعا ضد الأشقياء الذين تجرؤوا على المس بشخص وعرش ملك عظيم».
يؤكد سينويه أنه تم استدعاء الأخصائيين الأكثر شهرة إلى عيادة الباشا، وانتهوا إلى أن الفرعون الذى حكم الشرق ليس إلا طفلا، والحل الوحيد يكمن فى إعادته إلى مصر، وفى يوم 30 مارس، مثل هذا اليوم، 1848 أبحرت السفينة به إلى الإسكندرية، وعاد إبراهيم فى فرقاطة إنجليزية ووصل قبل والده بخمس ساعات، وعاش محمد على بعد عودته فى غفلة ذهنية مستمرة، ومات ابنه إبراهيم يوم 10 نوفمبر 1848.
يذكر نوبار: «فى أثناء المبالاة المهينة التى لازمت إبراهيم إلى قبره، كان أبوه كلما أفاق للحظات من غفلته الذهنية المستمرة يطوف شوارع القاهرة فى حراسة مماليكه وسط جموع الناس التى كانت تنظر إليه باحترام، ويرون فيه أحد المجاذيب».. يضيف نوبار: «عندما أخبروه بوفاة ابنه رد: «كنت أعرف.. لقد حبسنى.. كان قاسيا معى كما كان مع الجميع.. لقد عاقبه الله وأماته، لكنى أجد نفسى لكونى أباه من الواجب على أن أترحم عليه وأدعو له الله».
يؤكد نوبار: «عاش محمد على بعد هذه الكلمات لعدة أشهر تطارده دون هوادة فكرة أنه مازال محبوسا».. يضيف: «كنت فى سراية شبرا يوم 28 نوفمبر 1848 عندما أتى حفيده عباس ليقبل يده قبل السفر إلى القسطنطينية، فقال له محمد على: «لقد لعنت إبراهيم، لأنه حبسنى، ولذا قبض الله روحه فلا تتصرف نحوى مثله إذا كنت تريد ألا ألعنك أنت أيضا».. يتذكر نوبار: «طمأنه عباس وقال له وهو يقبل يده مرة أخرى: «أنت سيدنا وستظل كذلك».
يؤكد «نوبار»: «بدأت صحوة محمد على تتلاشى شيئا فشيئا، وحكى لى أحد مماليكه أنه الآن يتخيل نفسه وهو على رأس جيشه، وأحيانا وهو يدحر جنود القيصر من أسوار القسطنطينية، وأحيانا أخرى وهو يعيد جلوس لويس على العرش.. وفى 2 أغسطس 1849 توفى واصطحب سكان القاهرة موكبه الجنائزى المهيب إلى مسجده الذى شيده فى القلعة وحدد مكان قبره بنفسه».