طالبت لجنة الفتوى بالأزهر، النيابة بمصادرة كتاب «من هنا نبدأ»، والتحقيق مع مؤلفه الكاتب «خالد محمد خالد»، واستجابت النيابة، فهاجم البوليس المكتبات وباعة الصحف لمصادرة الكتاب، وجمع نسخه من الأسواق يوم 8 مارس، مثل هذا اليوم، عام 1950، حسبما يذكر «خالد» فى مذكراته «قصتى مع الحياة».
فى قصة مصادرة «من هنا نبدأ» تظهر جريمة إقحام الدين فى غير موضعه، مما يسهل فرصة مصادرة أى اجتهاد لا يروق لمن يتصورون أن بحوزتهم الحقيقة وحدهم طالما أنهم يتحدثون باسم هيئة دينية.. يذكر خالد فى مذكراته، أن النيابة وصفت «من هنا نبدأ» بقولها: «تعدى مؤلفه علنا على الدين الإسلامى وتحبيذه مذهبا يرمى إلى تغيير النظم الاجتماعية للهيئة الاجتماعية، ولتحريضه علنا على بغض طائفة من الناس هى طائفة الرأسماليين».. هكذا قدمت النيابة حيثيات مصادرتها للكتاب مما ساهم فى ارتفاع توزيعه.. يؤكد خالد: «توالت طبعاته سريعة حتى إن بعضها كان ينفذ فى يومين أو ثلاثة أيام».
ماذا عن الأفكار التى حملها هذا الكتاب وجعل لجنة الفتوى بالأزهر ترفضه وتستجيب النيابة لها؟.. يجيب «خالد» بأن كتابه كان اسمه فى البداية «بلاد من؟».. ثم أصبح «من هنا نبدأ» برأى صديقه السعودى عبد الله القصيمى، وتحت سؤال: بلاد من؟ يطرح أسئلة أخرى ويجيب عليها: «أهى بلاد الكهانة، أم بلاد الإسلام الخالص والمستنير؟.. يجيب: «فصل الدين.. لا الكهانة»، و«أهى بلاد الأغنياء المترفين، أم هى أيضا بلاد الجياع المسحوقين؟.. يجيب: فصل الخبز.. هو السلام».. و«أهى بلاد التعصب ووطن الطائفية، أم هى بلاد التسامح ووطن الجميع ؟.. يجيب: فصل «قومية الحكم».. و«أهى بلاد الرجال من دون النساء، أم هى بلاد الفريقين ومجلى نشاطهما، ومطلع ضوء لكل منهما؟.. يجيب: فصل الرئة المعطلة».
هكذا دارت أفكار الكتاب، وكان أول مؤلفات صاحبه ابن الثلاثين عاما وقتئذ «15 يونيو 1920 -29 فبراير 1996».. فى مذكراته يشرح تطورات المعركة التى نشبت، بدءا من الرقابة ثم لجنة فتوى الأزهر فالنيابة، وأخيرا فى المحكمة التى أجازت طبعه وتوزيعه.
يكشف «خالد» أنه، فى جلسة التحقيق بالنيابة ولمدة خمس ساعات على يومين، تم توجيه أسئلة إليه حول حقيقة اتهامه من الأزهر بالخروج عن الدين وإهانة العلماء بتسميتهم «الكهنة»، واتهامه بالشيوعية والحض على كراهية النظام، وأجاب هو عنها بالنفى، وبعد أيام تحددت جلسة المحاكمة، وكانت سرية والسبب كما يقول «خالد»: «الأمن علم أن بعض شباب الإخوان المسلمين سيحضرون الجلسة ويثيرون فيها شغبا، وانعقدت المحاكمة فى مكتب رئيس محكمة مصر الابتدائية، وكان يومها المستشار «حافظ سابق».. يضيف: «تطوع المحامى عبد المجيد نافع بالدفاع، وكان خطيبا من أرفع طراز، ويرى فى نفسه أنه كان الأحق بزعامة الأمة وقيادة ثورة 19 من سعد زغلول».
يتذكر خالد، أن «نافع» وقف فى المحكمة يدحض الاتهام كله، ويطالب بوسام للمؤلف، وبالرغم من أن مكتب رئيس المحكمة كان محدود المسافات طولا وعرضا فإن المحامى أطلق العنان لصوته وهو يقول: «إنى أرى شبح الحكومة الدينية التى حذرنا منها هذا الكتاب النذير يلمع فى الأفق» وضرب المكتب الذى أمامه بقبضة يده ضربة فزع منها رئيس المحكمة ذاته، وقررت المحكمة الإفراج عن الكتاب وبراءة مؤلفه مما نسب إليه، وقال رئيس المحكمة فى حيثيات حكمه ردا على اتهام لجنة فتوى الأزهر: «هذا الكتاب تمجيد لدين الله» ورد على اتهام النيابة بالشيوعية: «هذا الكتاب دفاع عن حقوق الشعب».
يذكر خالد، أن ردود الفعل تنوعت على الكتاب بين مؤيد ومعارض.. كتب الشيخ محمود شلتوت ولم يكن شيخا للأزهر مقالا على صفحة كاملة عنوانه: «هذا الكتاب يلقى ثلث القرآن فى البحر»، وكتب الدكتور أحمد الشايب الأستاذ بكلية دار العلوم: «إنه علم أننى- خالد- قبضت من السفارة السوفيتية عشرة آلاف جنيه».. يضيف: «نُسب إلى مفتى الديار المصرية الشيخ حسنين مخلوف، أنه علم أن الكتاب تم تأليفه فى السفارة الأمريكية، التى أجهدت نفسها فى البحث عن عالم أزهرى يضع اسمه عليه كمؤلف له، فأعياها البحث حتى عثرت علىّ «خالد» وقبضت عشرة آلاف دولار أمريكى، وألف محمد الغزالى كتابا مضادا: «من هنا نعلم»، وعلى الجانب الآخر دافع عن الكتاب «سلامة موسى» و«محمد خطاب» عضو مجلس الشيوخ وكامل الشناوى وحفنى محمود باشا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة